في 15 يونيو 1963، للصدفة، تم رسميا اعتقال مناضلين من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، من ضمنهم طالب اسمه مومن ديوري، بتهمة تحضيره لهجوم ضد القاعدة الأمريكية بمدينة القنيطرة بهدف الاستيلاء على أسلحة ومدخرات. هذا في الوقت الذي كانت فيه المصالح الأمنية على دراية بالموضوع منذ بداية سنة 1963! في 16 يوليوز، عقد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية اجتماعا هاما بالدارالبيضاء، حضره منتخبوه وأطره من كل مناطق المغرب، وخصص لدراسة الانتخابات الجماعية القادمة، التي كانت مقررة يوم 28 يوليوز. حضر الاجتماع كذلك ثلاثة صحافيين، مغربيان أحدهما الصحفي بنكيران، مدير «المغرب أخبار»، وصحافي أمريكي يدعى «كولي». في نفس الوقت، لم يتردد محيط القصر الملكي في الإعلان عن: « إنهم يجتمعون للتآمر على الملك »! لتجتمع قوات أمنية بأعداد كبيرة في حدود الساعة السادسة مساء لمحاصرة مقر الاجتماع. أمام ذلك الوضع، قرر المنتخبون ملازمة المكان وإغلاق كل الأبواب. لكن، في الساعة التاسعة، قامت قوات الأمن ، مسلحة، باقتحام مقر الاجتماع، لتعتقل 120 شخصا منهم 21 منتخبا من بين 28 كانوا حاضرين. في مساء نفس اليوم، أطلق سراح بوعبيد والزموري ومعهما الصحفي الأمريكي بعد تدخل سفير الولاياتالأمريكيةالمتحدة. ولم يكن من ضمن المناضلين المعتقلين أي عضو من الاتحاد المغربي للشغل. وتم اقتياد المعتقلين، وأعينهم مغمضة والأيدي مقيدة نحو المقر المركزي للأمن بالدارالبيضاء الشهير بدرب مولاي الشريف، حيث مكث «المتآمرون» البعض منهم لأسبوع، بدون تغذية طيلة اليومين الأولين، حسب شهادات بعضهم. فيما مكث آخرون بمعتقلهم لأسابيع عديدة دون أن يتمكنوا من معرفة سبب اعتقالهم! العديد منهم تعرض لتعذيب وحشي للدفع بهم للاعتراف ب «الجريمة»، إما في معتقلهم وإما في معتقلات أخرى تم نقلهم إليها. ولكن كيف يعترفون ومعظمهم يجهل طبيعة التهم الموجهة؟ للأسف، البعض، بدا مرعوبا، وشى بجار، أو برفيق بحثا عن الخلاص، لايهمه في ذلك مشاهدته يتعذب لحد الموت كما حدث. وتم إطلاق سراح بعض المعتقلين في غضون بضعة اسابيع، فيما أحيل الباقون على أنظار القضاء. عاد الاحتقان أشد وأقوى وأكثر عنفا. فأيام قليلة بعد 16 يوليوز، تم مجددا اعتقال المئات من المسؤولين المركزيين والجهويين والمحليين في صفوف مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من كل مناطق المغرب، ودائما تحت ذريعة التآمر من أجل اغتيال الملك! يوليوز غشت، تظل أول وأكبر عهد للاعتقالات، اختطافات، تعذيب وضغوطات مختلفة عاشها الشعب المغربي. وفي 1965، وبعدها في 1970 80، وانطلاقا من الشهرين إياهما، عهد حديدي سيلف الشعب المغربي. كان الأمر يتعلق بمعاقبة منتخبي المعارضة في الانتخابات السابقة، وقطع الطريق أمام المرشحين التقدميين في أية انتخابات جديدة. ماذا كان إذن الجرم الذي اقترفوه؟ أساسا لأنهم كانوا من اليسار، يخالفون السلطة القائمة، التي لاتحترم من بين ما لاتحترمه، حقوق الإنسان وحرية التعبير. الوضع ازداد احتقانا، والحالة كانت عامة من الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق. وحسب بعض الملاحظين، فقد تم اعتقال أكثر من 5000 مواطن، بعضهم أطلق سراحه بعد أيام، البعض الآخر بعد أسابيع، والبعض الآخر «اختفى» للأبد! بالنسبة للملك، اكديرة فشل في انتخابات ماي، كان من الصعب إذن تكليفه من بعد بملفات مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. قام الملك إذن بتعيين وزير جديد للداخلية هو أحمد حمياني الذي حمل، في 19 يوليوز عبر الاذاعة والتلفزة الفرنسية، مسؤولية«المؤامرة» للمهدي بن بركة! ففي تصريحه، أعلن الوزير عن اكتشاف مخزنين للأسلحة يوم 18 يوليوز. مرة أخرى، يتم وصف زعيم المعارضة كعدو أول للدولة. من جانبه، وفي خضم ذلك السيناريو، كان المهدي بن بركة قد غاب عن «الاستدعاء أو الدعوة». فقد كان قد غادر البلد من قبل في شهر يونيو في تجاه القاهرة وبغداد، مكلفا بمهمة مصالحة الرئيس عبدالناصر والبعث العراقي. بن بركة لم يهرب من البلد، فعلى متن نفس الطائرة التي كانت تقله، كان يوجد أوفقير ومحمد شرقاوي سفير المغرب بفرنسا. أبلغني امحمد عواد سكرتيره الخاص والذي كان قد رافقه للمطار بآخر عبارة نطق بها «المسؤول» عنه: « محمد.. بقيت وفيا ومخلصا». أجل، إذ من بين كل الأوفياء.. كان الأخلص من بينهم.. في ذكراه، وفي سلوك المهدي بن بركة.. إنه هو.. امحمد عواد! في العشرين من شهر يوليوز، عقد المجلس الوطني للاتحاد المغربي للشغل اجتماعا خصص لدراسة الوضع ما بعد التدابير المتخدة ضد رفاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وتقررت مقاطعة الانتخابات المحلية التي كانت مقررة يوم 28 يوليوز. يوم 30 يوليوز، صرح المهدي بن بركة: «الواضح أن السلطة الفيدرالية والذاتية بالمغرب ما هي إلا ديكتاتورية أمنية، تبحث عن فرض سلطتها خلف انتخابات مزيفة». استقر إذن بجنيف، وخلق لجنة للدفاع عن المعتقلين، وكانت اللجنة تضم عددا كبيرا من شخصيات اليسار الفرنسي تحيط بالبروفيسور شارل أندري جوليه. منذئذ،لن يعود أبدا إلى المغرب.. حياته لن تكون حياة لاجئ، ولكنها حياة لاجئ ينشط لصالح بلده. بالرغم من ذلك، وبعد استقراره بسويسرا لفترة وجيزة، سيقوم الحسن الثاني بإرسال محمد علوي، نائب سابق لكاتب الدولة في الشؤون الخارجية، لإبلاغه باستعداد الملك للتعامل مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية شريطة موافقة المهدي بن بركة، وبشرط أن يكون حاضرا بالمغرب. ألم يكن ذلك هو نفسه ما سيحدث سنتين بعد ذلك خلال الجزء الأول من عملية «عودة بن بركة للمغرب»؟ لكن ذلك لم يمنع بن بركة من الرد على المرسول إليه: «بكونه لايرى إلا الإيجابي في انفتاح الملك على الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، هذا الأخير يمكنه العمل جيدا ولو في غيابه، عبر الاتصال بقادة الحزب الموجودين في المغرب» ومع كل هذا «الشعور الجيد»، الظاهر، فلم يمنع، أيام الاحتقان، الأمن من مداهمة بيت الزعيم المغربي في شارع تمارة، في غياب حرمه وأبنائه ولكن في وجود أحد أقربائه الذي عاين التخريب الذي لحق بأرشيف بن بركة، بوثائقه، وبكل كتبه. في العطلة بفرنسا، منذ 13 يوليوز، وجدت في الصحافة الفرنسية، يقول بوتان، بعض التحاليل المهمة الخاصة بالوضع في المغرب. انضافت لبعض منها سبق أن وجدته، مثلا، «شهادات مسيحي» ل 25 يوليوز: «لتوريط خصومها، مباشرة قبيل الانتخابات الجديدة، اختلقت الحكومة المغربية كل شيء يتعلق بالمؤامرة (...)! لم تترك ذكرى تلك الأساليب المعتمدة في ثورة الريف في 1958/1959، من طرف (الأمير مولاي الحسن) لتكسيرها، أدنى أمل لدى قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في أية إمكانية للتوافق.» جريدة «le monde» للسابع من غشت منحت الكلمة للبروفيسور شارل أندري جوليه الذي أوضح تحت عنوان :«ماذا عن المؤامرة بالمغرب؟». من جانبه، كتب جون لاكوتير: « كيف كانت الوضعية في المملكة الشريفة في 18 يوليوز 1963؟: «.. بالرغم التجاوزات وغياب الاستقرار الذي لف البلد.. بالرغم من حرمان أصحاب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من كل لوائحهم الإيجابية.. كيف لحزب يمتلك أوراقا جيدة للمستقبل ممكن بها تحقيق مزيد من النجاحات خلال المراحل الثلاث من المواجهة المرتقبة سنة 1963، أن يختار المغامرة والعنف، في المغرب الذي تراقب فيه السلطة المركزية بحزم الأمن والجيش؟» بدوره، وبتاريخ 9 غشت، صرح بن بركة لجريدة «le monde»،: «المئات من قادة ومناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية هم محتجزون منذ ثلاثة أسابيع من طرف الأمن بالمغرب، في أماكن أو في فيلات بالرباط والدارالبيضاء، جهزت خصيصا للاستنطاق من طرف خلايا خاصة». طالبني مجموعة من الأصدقاء المغاربة، يقول المحامي، بالدخول بسرعة للمغرب للمشاركة في الدفاع عن المناضلين المعتقلين، على الأقل المعتقلون رسميا في سجن القنيطرة. بالطائرة التي كانت تقلني للمغرب، تساءلت عن عمق الملف، فحسب مقالات الصحف وبلاغات السلطة التي درستها، هل يوجد يساران بالمغرب؟ الأول مستعد للمشاركة في لعبة الديمقراطية للوصول بشكل عادي للسلطة، والثاني لايؤمن سوى بالفعل الثوري العنيف، بعيدا، بكل تأكيد عن الأحزاب؟ لكن، هل كان الحسن الثاني نفسه مستعدا للاعتراف بالإطار الدستوري الذي يخنقه في كل خطاباته؟ بمجرد وصولي، أحطت بأول أسرة، كانت للسيد غوماري الكاتب العام السابق للتوافق الوطني بالرباط. كانت الأسرة تعلم أن قريبها معتقل منذ ستة أسابيع في سجن القنيطرة. لكنها لم تتمكن من لقائه أو زيارته ولم تتلق منه أدنى معلومات مباشرة بعد اعتقاله.بسرعة، انتبهت إلى أن الأمر متشابه عند كل الأسر. خلال لقائنا الثاني، بالسجن المركزي، روى لي غوماري كيف أنه بعد مغادرتي للسجن، حكى لزميله في الزنزانة المجاورة.. هذا الأخير نقل الحكاية بدوره لزميله في الزنزانة الأخرى.. وهكذا دواليك.. بخلاصة بعد أول مرور لي بالسجن المركزي، كيف عاد الأمل في الحياة لمجموع المعتقلين. « تنفس السجن من جديد».. لم أدرك قبل ذلك أهمية الدور الذي يمكن لمحام أن يلعبه في مثل تلك الحالات.. لقد قدمت لزبوني ولباقي المعتقلين جرعة أوكسيجين كانوا يبحثون عنها منذ أسابيع طويلة جدا.. كل واحد منهم كان يعيش سره، ملتصقا بصمت الحيطان، المفروض من السلطة الحسنية المتشددة. الملاحقات الإعلان عن وجود «مؤامرة ضد الملك» فاجأ الرأي العام الوطني والدولي. كانت الصحافة الدولية خاصة الفرنسية لاتتوقف في المطالبة بمعلومات واضحة تخص تلك القضية الخطيرة. وبأمر من الملك، قام أحمد باحنيني وزير العدل، بعقد ندوة صحفية لمنح بعض التوضيحات. إلا أن الندوة التي عقدت يوم 15 غشت، وبدل أن تمنح التوضيحات، زادت من حدة التشكيك: «الأبحاث الأولية انتهت اليوم.. المؤامرة كانت تهدف لاغتيال الملك داخل قصره.. وبالتالي الاستيلاء على الحكم». وحسب الوزير، فالمتهمون هم من جديد، كما حدث في 1959، الفقيه البصري وعبدالرحمان يوسفي«اللذين، حسب الوزير، قابلا بجنيف في شتنبر من سنة 1961، أحد المتخصصين السوريين في تنظيم انقلاب على الدولة. الثلاثة، رسموا، بمناسبة عقد المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، مخطط انقلاب يمكن تنفيذه بالمغرب، يوفر له المال الكافي من الخارج، الجزء الأكبر منه من طرف المهدي بن بركة. بذلك، تلا الوزير ست صفحات للآلة الكاتبة، دون أن يقدم دليلا واحدا واضحا حول حقيقة وجود مؤامرة من الاتحاد الوطني ضد الملك. من بين المعتقلين 102 المنتمين للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، عشرة منهم من قدماء المجلس الوطني للمقاومة، 33 من قدماء المقاومين، و81 من المناضلين من مختلف مناطق البلد. الذين اعتقلوا رسميا بتهمة المشاركة في«المؤامرة»، تم إطلاق سراحهم، لانعدام أدلة قاطعة، للأسف بعد أن تعرضوا لشتى أنواع التعذيب. وسيطرح ملف «مؤامرة يوليوز» أمام أنظار القضاء في ربيع 1964.