أول أمس الأربعاء الماضي، نشر موقع «وكالة أنباء الشعر» نص حوار مطول أجرته مع الكاتب المغربي الكبير عبد اللطيف اللعبي، يعيد «الاتحاد الثقافي» نشره نظرا لأهميته واندراجه في سياق النقاش القائم حول دور المثقفين في مغرب ال»هنا والآن»، وفي الدعوات المتعددة حول ضرورة فتح نقاش وطني حول السياسة الثقافية. ورد في تقديم الحوار: «ولد بمدينة فاس سنة 1942. تابع دراسته العليا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط حيث حصل على الإجازة في الأدب الفرنسي سنة 1964. اشتغل بالتعليم الثانوي بالرباط إلى أن تعرض للاعتقال في مارس 1972. حكمت عليه محكمة الدارالبيضاء في 2 سبتمبر 1973 بعشر سنوات سجنا بتهمة المس بأمن الدولة، وقد أطلق سراحه في 18 يوليوز 1980. التحق بفرنسا. وقد حصل سنة 1985 على دبلوم الدروس المعمقة من جامعة بوردو. اقترن اسمه بتلك المرحلة العصيبة في تاريخ المغرب، حين قارع القلم السيف بشدة... في سبعينيات القرن الماضي المليئة بالمغامرات السياسية والفكرية والفنية، أسس عبد اللطيف اللعبي مجلة «أنفاس» (1966) ، هذا الشهاب الذي مرّ خاطفاً. أوراقٌ في الشعر والتشكيل والسياسة حكت هموم جيلها و«سنوات الريح المجنونة والخسوفات». بقيت المجلّة في تاريخ المغرب تلك الشمعة الواقفة في وجه الريح. عبد اللطيف اللعبي: «السجين 18611» مجنون الأمل والشعر والحريّة يفتح قلبه للوكالة في هذا الحوار العميق المفتوح على الروح و القصيدة و الوطن». { لسنوات ظل اسم اللعبي غائبا عن الأنشطة الثقافية بالمغرب، مؤخرا حدث نوع من التصالح بين اللعبي وبعض المؤسسات الثقافية بالمغرب. فهل هذا يعني أن الجو الثقافي الذي ابتعدت بسببه عن المغرب قد أصبح الآن جد ملائم؟ أنا لم تكن لدي اطلاقا قطيعة لا في الماضي البعيد أو القريب مع مؤسسات ثقافية أحترمها وأعتقد أنها تلعب دورا ايجابيا في الساحة الثقافية بالمغرب. كل ما في الأمر وللأسف هو أن المؤسسات الثقافية بالمغرب قليلة جدا، وبالخصوص تلك المؤسسات التي تفتح المجال للمثقفين والمبدعين الذين يحاولون الاحتفاظ باستقلاليتهم. ولربما أن هذا التحرك الذي لاحظتموه خلال هذا العام هو ناتج عن المناخ العام الذي نعيشه والذي يسمح لبعض الأصوات التي كانت شبه مخنوقة بالتعبير عن نفسها بكامل الحرية. وسابقا لم يكن هذا ممكنا حيث كانت مجموعة من المخاوف تحيط بمجموعة من الأسماء. وأنا شخصيا كنت مطبوعا بتجربتي وبالتالي كان هناك تخوف كبير من فتح المجال لصوتي. أما الآن فالمناخ أصبح أرحب بالنسبة لآراء قد تزعج البعض. و بإمكاني التعبير بكل حرية والكتابة وفوق رأسي شرطي. { كانت لك تجربة سياسية مهمة في المغرب تعرضت للاعتقال على اثرها. الآن وقد تغيرت الأحوال لماذا لم تنخرط في اللعبة السياسية بالمغرب، وهل أنت نادم على تلك التجربة السابقة أم لا؟ لربما أجيبك بسؤال: هل المغرب ليس في حاجة الى كتاب أيضا؟ أعتقد أن للرجل السياسي وظيفة ومهمة وللمثقف والأديب أيضا وظيفة ومهمة في هذه المرحلة. وهذا لا يعني أنني كمواطن ليست لدي آراء سياسية ولا تحليل للواقع الراهن وللمهام المطروحة للخروج بهذه البلاد من النفق الذي ما زالت فيه لحد الآن رغم الانفتاح الحقيقي مع عثراته الذي نعيشه اليوم. أنا في شروطي وظروفي الحياتية حاليا أركز على وظيفة المبدع الكاتب ولكن الكاتب المواطن الذي له أيضا آراء وتحاليل في المجال السياسي. أنا أحرص الآن على استقلاليتي ككاتب ومثقف. وأظن أن أي مجتمع يطمح للديمقراطية والتحضر به أناس مثقفون يستطيعون الاحتفاظ بتلك الاستقلالية في التفكير. أنا حريص كل الحرص على أن أبقى حرا، قد أتفق أو لا أتفق مع بعض التيارات السياسية، لكن الأساسي بالنسبة لي هو أن أحتفظ بكامل حريتي في الرأي وفي أن أكون ضد التيار كيفما كان هذا التيار وكيفما كان لونه. { على الرغم من التغيرات التي شهدتها الساحة الثقافية بالمغرب ذكرت أخيرا في لقاء لك ب «مؤسسة سوشبريس للنشر والتوزيع» بالدارالبيضاء أن الجو الثقافي العام بالمغرب لا يطمئن بدليل أن الثقافة بالمغرب لا تخلق الحدث، فما هي برأيك الأشياء التي يجب توفرها لتخلق الثقافة بالمغرب الحدث؟ لعل هذا رهين بمدى تقدمنا في بناء صرح الديمقراطية بالمغرب. لا يمكن أن تكون هناك سياسة ثقافية هدفها فعلا هو جعل الثقافة في متناول الجميع، ثانيا أن الثقافة لا تعتبر خصما للدولة بالعكس المثقف يقوم بوظيفته وهذه الوظيفة يجب أن تعتبر ذات مصلحة عامة. لحد الآن للأسف ليست هناك رؤية لتغيير هذا الواقع الثقافي لا على مستوى البنيات التحتية الأساسية (الوضع المزري للخزانات العامة انعدام دور الثقافة الحقيقية انعدام مسارح بمعنى الكلمة وانعدام معاهد للموسيقى) ولا على مستوى المناهج التعليمية. فهذه الاجراءات هي التي تسمح بتحريك الوضع الثقافي، ولحد الآن لم نسجل نقلة نوعية على هذا المستوى، لأننا ما زلنا في وضع يطغى عليه نوع من الحرفية وليس الاحتراف. وربما أن هذا الهم ليس هو الهاجس الأساسي لحاكمينا، خصوصا أن وضعنا السياسي يتميز باستحقاقات قريبة الكل يركز على ما يعتبره أساسيا بالنسبة لمشاريعه السياسية المستقبلية. ولكن مستقبل البلاد ومستقبل الشباب والوعي الحضاري فيها لا يحظى باهتمام يومي أكيد.
{ كيف تعيش هويتك العربية وأنت تكتب بالفرنسية؟ هل نستطيع أن نكتب بالعربية ما نكتبه بالفرنسية، وهل تعرف العربية أن تقول كل شيء؟ هل تعرفين أن تقول كل شيء؟ إنه سؤال جدير. مهمة الكاتب باللغة العربية أصعب من مهمة الكاتب الفرنكفوني أو الأنكلوفوني أو الاسبانيوفوني. الى يومنا هذا، لم توجِد اللغة العربية موقفاً ناقداً للمحرّمات في المعنى الحقيقي. إنها لغة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالهوية، فهي موضع إجلال واعٍ أو غير واعٍ، إلى حد القداسة. لا أدري إن كنا قد وصلنا إلى نهاية الاهداف التي وضعها بعض الكتاب الطليعيين لأنفسهم، ولا أريد هنا أن أقلل من شأن أحد. ثمة حدود لم يجتزها أحد بعد، ولا تزال المسألة مطروحة للمناقشة. أتحمل مسؤولية ما أقول. ولا أعني بذلك أن اللغة العربية أقل مستوى أو انها لا تملك قدرات غيرها من اللغات. نعم، وفي كل الاحوال اللغة موجودة من دوننا...
{ كانت لك تجربة ثقافية رائدة في الستينات تمثلت في اصدار مجلة »أنفاس« بامكانيات جد متواضعة. والآن وعلى الرغم من تحسن الأحوال الثقافية بالمغرب لماذا برأيك لا نجد مثل هاته المبادرات الثقافية الهامة بالمغرب؟ في الستينات كانت الثقافة في قطب مستقل عن السلطة أو في معارضة السلطة. والمثقف كان يتحلى بهذه الاستقلالية التي كنت أدافع عنها منذ تلك السنوات. وفي حقلنا الثقافي اليوم أظن أن الجانب الطاغي هو انعدام المجلات الثقافية التي تطرح القضايا الفكرية والأدبية الرئيسية وتسمح للابداع الجديد بالتعبير عن نفسه. وهذا الانحصار الثقافي الذي نعيشه منذ سنوات هو نتيجة لتبعية الثقافي للسياسي، إذ أنه لحد الآن لم نتحرر بشكل كاف من هذه التبعية ما دامت الثقافة لدينا تنتمي الى معسكرات سياسية عوض أن تكون ملكا وخزانا أو كنزا مشتركا. { هناك أبيات مخيفة، كمثل هذا البيت: «صدفة/ تذكروا/ رجلاً في السجن». لكنكَ رغم تآمر القدر لا تتأرجح في التيار العبثي بل «تبني لتمردك مملكة». نعم، عندما كنت أعيش هذا الموقف. لا أحد تحرك في العالم العربي باستثناء بعض المفكرين. بينما في أوروبا قامت حملة دولية لإطلاق سراحي. في العالم العربي نظن أن من الطبيعي أن نتحمل العواقب إذا ناضلنا ضد الكبار. نعتبر أنهم يسدون إلينا خدمة إن لم يقتلونا. لم تتجذر عندنا بعد حتى فكرة حقوق الإنسان وثقافته، ولو أننا أحرزنا تقدماً كبيراً في هذا المجال. { يراكم اللعبي الى جانب الشعر والقصة والرواية والمسرحية وكتابات الأطفال ترجمات مهمة لأعمال شعرية عربية الى اللغة الفرنسية. فكيف تستطيع الجمع بين مختلف هذه الأجناس وهل استطاعت هذه الترجمات تقديم صورة واضحة عن الشعر العربي الحديث؟ ما قمت به هو مساهمة متواضعة ضمن المجهودات التي يقوم بها مترجمون آخرون أغلبهم فرنسيون، لأن المترجمين العرب الذين يترجمون الأدب العربي الى الفرنسية قليلون جدا. لكن بالنسبة لي ومنذ أول أنطولوجية لشعر المقاومة الفلسطينية كان لدي هاجس التعريف بالأدب العربي لدى الجمهور الفرنسي، لأنني أعتبر أن تغيير الصورة عن الواقع العربي لن يتأتى فقط عبر تحاليل وخطابات سياسية بل من خلال التعرف على الثقافة العربية وعلى روح هذه الثقافة التي هي الأدب عموما والشعر خصوصا. رسالتنا الانسانية والحضارية اليوم وليس فقط في الماضي الأدب هو الذي يتضمنها. ومن هنا هذا الاهتمام و«النضال» لتصل أصوات شعرائنا وكتابنا العميقة الى الآخر ليكتشف هذا العمق الانساني والحضاري فينا. أما مسألة الجمع بين الأجناس فلا تخلق لي أية مشكلة. فأنا حيوان أدبي له خصوصيته، لأنني في أي وجهة أتوجه اليها سواء في الحياة أو الكتابة أكره القيود. فبالنسبة لي لا يجب بناء أسوار داخل الحقل الأدبي للفصل بين الأجناس الأدبية. أنا من الكتاب الذين يحاولون مد الجسور وتفعيل الحوار بين الأجناس الأدبية. وأعتبر أن هذا المنهج يندرج في اطار اسهامي الشخصي في تطوير وتجديد الكتابة الأدبية. وفي خضم هذا تظل هويتي الأساسية ككاتب هي كوني شاعرا. ففي كتاباتي المسرحية والقصصية والروائية وحتى كتاباتي المتوجهة الى الأطفال لا أتنازل عن هويتي كشاعر. { من وقت الى آخر، تكتب للأطفال، هل لأنك تريد أن تملأ فراغ الحلم الذي تقتله الإنسانية؟ كلما تقدمت في السن، تميزت علاقتي مع الأطفال. اكتشفت أن الأطفال يحبونني كثيراً. ربما لأنهم يرون فيّ شخصاً قريباً منهم. لطالما احتفظتُ في ذاتي بنظرة الطفولة. إذا فقدنا هذه النظرة يختفي الشاعر الذي فينا. للأسف، لا يهتم الكتّاب العرب أبداً بهذه الفئة من القراء، رغم أن النشر في هذا المجال يزداد بنسبة 10/100 كل سنة. الكتّاب العرب القلائل الذين كتبوا نصوصاً للأطفال أثقلوا كتبهم بالإيديوجيات، ومن البديهي القول إننا إذا أردنا أن نبني مجتمعاً عربياً آخر، يجب أن نبدأ بالأطفال. ويجب خصوصاً عدم الاعتقاد أن قصائد الأطفال أو قصصهم تمرين بسيط. إنه أدب بالغ الأهمية وقائم في ذاته، وليس فرعاً أدبياً. ناضلتُ من أجل ذلك في المغرب لسدّ هذا الفراغ وكانت النتيجة نجاحاً نسبياً، لكن هذا القطاع يحتاج الى تطوير كبير.
{ لماذا رفضت الحكم أدبيا على الكتابات التي ظهرت في السنوات الأخيرة بالمغرب والتي تتناول فترات الاعتقال والسجن، وفضلت الحكم عليها انسانيا، وهل هذا يعني أن تلك الكتابات لا تحتكم الى معايير أدبية؟ أظن أن أهمية هذه الكتابات لا تكمن في الرهان الاستتيقي أو الأدبي بل تكمن في الشهادة التي تقدمها وفي التعبير عن التجربة الانسانية. فإذا قلت أنها ليست أعمالا أدبية لربما سيفهم من ذلك أنها أعمالا تافهة أو لا قيمة لها. لا أبدا لقد قرأت بعضا من هاته الأعمال وتأثرت بها كثيرا، لكن ليس لسبب استتيقي جمالي بل لسبب انساني شعوري قبل كل شيء. فلا يجوز أن نخلط بين الأدب والشهادة، لأن لكل منهما خصوصيته. أنا أعتبر أن هاته الأعمال التي صدرت تغني المخيلة المغربية وتغني معرفتنا بواقعنا وبتجربتنا التاريخية التي ممرنا منها في الأربعين سنة الماضية، وتعرفنا أيضا على قدرتنا على الصمود وعلى المقاومة والتشبت بالقيم الانسانية. { مؤخرا أطلقتم حملة من أجل ميثاق وطني للثقافة، ما الاسباب التي دفعتكم لهذه المبادرة؟ عرفت الساحة الوطنية في الآونة الأخيرة هزة غير اعتيادية. وبغض النظر عن تجلياتها الظرفية (السخط العارم الذي انتاب وسط المثقفين على إثر بعض القرارات الهوجاء المتخذة من طرف وزير الثقافة الجديد)، فلقد كان لهذه الأزمة نتيجة إيجابية تكمن في انتعاش الجدل حول حقيقة أوضاعنا الثقافية ورهانات الثقافة في بلادنا. كيف لا أثمن هذه الصحوة، خصوصاً وأنني لم أكف، خلال السنوات الأخيرة، عن تنبيه الرأي العام والمسؤولين السياسيين على السواء إلى تلك المفارقة المتمثلة في الترويج لمسار الاختيار الديمقراطي، الحداثة، التنمية البشرية والمستدامة، والمشروع المجتمعي الجديد حتى، والقفز في نفس الوقت على المكانة التي يجب أن تحظى بها الثقافة في مسار مثل هذا ، والدور الحاسم الذي يمكن أن تضطلع به فيه. ومن ثم، سبق لي أيضا أن ناديت إلى قلب للمعادلة يسمح باعتبار الثقافة كأولوية، كقضية تستحق أن تحتل مركز الصدارة في النقاش الوطني العام. لقد دعوت إلى وضع تصميم وطني استعجالي بهدف الاستئصال النهائي لآفة الأمية، والالتزام بتحقيق الهدف في أجل ألا يتعدى الخمس سنوات. مع ضرورة تكوين لجنة علمية عليا متعددة الخبرات، تعهد إليها، مهمة تقصي الأوضاع والحاجيات في ميادين التعليم والثقافة والبحث العلمي. كما أرى بأحقية إطلاق تصميم يهدف إلى تغطية الحاجيات الثقافية الأساسية للبلاد، وذلك بإنشاء البنيات التحتية التي نفتقر إليها، وإنشاء مركز وطني للفنون والآداب يسعى إلى نسج العلاقات مع المبدعين. ومن جملة المقترحات التي وردت في النداء الدعوة إلى تقديم منح للمبدعين تسمح لهم بالتفرغ لإنجاز مشاريع في الإبداع والترجمة، وتوفير فرص للإقامة الموسمية في بيوت أو مراسم مجهزة. والعمل على تكوين هيئة تعنى بشأن الكتاب. وإنشاء وكالة لإشعاع الثقافة المغربية في الخارج. والإقدام على عملية إنقاذ الذاكرة الثقافية المغربية. وإعطاء انطلاقة جديدة وحازمة لعملية إصلاح التعليم. و لابد للجميع من أن ينخرط في الفعل الثقافي، باعتباره قاطرة تقود إلى تنمية المجتمع. { فوزك بجائزة «غونكور للشعر» 2009، يراها البعض انصافا للشعر المغربي والآخر يراها سببا من أسباب تضاعف نجوميتك ، كيف ترى نجومية الشاعر ؟ أنا بكل تواضع لست نجما، وأكره النجومية، لأن وظيفة الشاعر بالنسبة لي خارجة عن نطاق الأضواء و حياتي كلها مفعمة بهذه الحاجة إلي الكتابة، وأن المهم لدي هو الإستمرار علي النهج نفسه، وخوض المغامرة إلي النهاية. { كلمة توقع بها هذا اللقاء ؟ أنا أحلم بالسلام الذي سيجعلنا أكثر إنسانية ، ولأنه كذلك علينا التمسك به أبدا، والعمل من أجله دائما، ولو بكتابة الشعر .