حينما، يوجه ريجيس دوبري رسالة إلى صديق يهودي، والمقصود هنا «إيلي بارنافي» السفير الإسرائيلي السابق بباريس، ففي حقيقة الأمر يقتحم سؤالا أنطولوجيا مؤرقا جدا، على طريقة، إلى أين تذهب إسرائيل ؟ بنفس المضامين التي قد توحي بها الصفحات المخصصة بين ثنايا العدد الأخير من مجلة «عالم الأديان» الفرنسية، لآخر ما أنجبه دماغ دوبري، المتعقب لمباحث عديدة، تتراوح بين الفلسفة والنقد والرواية والسياسة والدين ، توحدها جميعا روح المناضل الثوري الذي اختبر عمليا في شبابه، السلاح وعاشر رموزا تاريخية مثل فيديل كاسترو، تشي غيفارا وسالفادور أليندي... . تبسيط سريع، لأهم أطروحات هذا العمل الشفاف يظهر خلوه من أي أثر للكراهية، كما أشارت توطئة المجلة، وصاغته ريشة وموسوعية لا نظير لهما في الفكر الفرنسي، باعتراف «معارضه» الصحافي الإسرائيلي «ستيفان أمار» الذي تكفل بمهمة الرد على دوبري ودحض رؤيته الرافضة لمنظومة السياسة الإسرائيلية بمرجعياتها وأهدافها ووسائلها وماهيتها، وإستراتيجيتها وتعاملها الاحتقاري مع الفلسطينيين بأسلوب لا يمكن وصفه إلا بالأبارتيد. بناء عليه، ألمح دوبري بطريقة ذكية، عند نهاية الحوار الذي أجري معه، بأن كثيرا من أصدقائه الإسرائيليين، شرعوا في مجابهة أنفسهم بأسئلة مصيرية وراديكالية تصب جميعها نحو سؤال : هل بوسع إسرائيل أن تحيا لفترة طويلة، على الرغم من حيويتها الاقتصادية؟. إن ريجيس دوبري، وهو يفضح النزوع الإسرائيلي نحو عقائدية وطنية وإثنية، يُعبر عن وفائه الأخلاقي لاختياراته الفكرية المنحازة دائما إلى العدل والحرية، بالتالي مقاومة كل أشكال الاستعمار. لكنه، هنا ولاسيما باعتباره مثقفا أوروبيا، يبتغي صادقا تخليص قارته من هاته الرقابة الذاتية الكابحة. ففي فرنسا مثلا، قليل هم الكتاب والصحافيون الذين يتوفرون على الجرأة والشجاعة كي يفضحوا التعصب الديني الإسرائيلي. في المقابل، يبدو لهم من اللائق أكثر التصدي لحماس. يقول دوبري: «قضية نجازف، مع كل كلام عنها، بأن نصعق كهربائيا». وضع، سيحاول البحث عن أسبابه، من خلال تبين معطيات اللاوعي التاريخي الإسرائيلي والخلفيات الذاتية المتوارية. إسرائيل التي تمارس البربرية تجاه الفلسطينيين، هي التي انتقلت من دولة لليهود حسب تعبير المؤسس «تيودور هيرتزل»، إلى دولة يهودية تخضع الأراضي باسم إله يستوطن التاريخ، وفق لانهائية مقدسة «وصارت الإلياذة إنجيلهم، أي قصيدة أبدية للقوة». في السياق ذاته، تحول ما عرف بالمحرقة إلى نقطة مشتركة موحدة لجميع الأوروبيين، بل مثل مركز مقدس متعالي «لكنه مقدس سلبي، شيء نتجنب قطعا رؤيته ثانية، وفي إطار هذا الرفض تبلورت أوروبا». لذا، سيبذل رؤساء الدول والحكومات، أقصى ما في وسعهم، بغية التعبير عن مواكبتهم لطقوسها واحتفالاتها التذكارية. من هنا، ضرورة إرجاع الذكرى، يؤكد دوبري، إلى إطار موضوعي وتفسيري والتخلص من الحمولة العاطفية التي تضفي هالة قداسة مرعبة على ّ»الكره المطلق»، وازع يقتضي عملا دؤوبا للأصوات الباسلة المنتمية إلى المجتمع المدني. إن استحضار، دراسة أصيلة كتلك الصادرة سنة 1944 تحت عنوان : «شهادتي أمام العالم » لصاحبها «جان كارسكي»، أبرزت اضطهاد اليهود فقط في فصلين من بين ثلاثين فصلا. لكن، مع بداية 1960 اتخذت الواقعة منحى غريبا، وكأن دوبري يتوخى التشديد على أن بتر الأحداث من سياقها التاريخي، يطبعها بكثير من الالتباس وسوء التقدير. لهذا، ينبغي التخلص نهائيا من المذهب القائم المنمّط لمعرفتنا بالمحرقة كي توضع الأمور في نصابها الطبيعي والقطع مع التيولوجيا التي تقود على الفور إلى العهد القديم، وما تنطوي عليه من تميز لشعب مختار، ثم تصير الديبلوماسية خداعا، بحيث لا تسوية ممكنة على أرض مقدسة. أيضا، وبجانب كارسكي من المفيد جدا، قراءة كتاب إسرائيليين آخرين، مثل «أفراهام بورغ» الذي أنجز سنة 2007 دراسة تحت عنوان : «هزْم هيتلر، من أجل يهودية أكثر إنسانية وكونية»، أقر فيه، بأن نضال اليهود ضد الحلقة المفرغة الجهنمية التي وُضعوا داخلها منذ عيسو حتى هيتلر مرورا بفرعون، وجالوت وأدريان وفيسباسيان وكذا خميلنيتسكي...، كانت نتيجته عكسية بحيث فقدوا حساسيتهم بقدر نضالهم، ويعيدون إنتاج نفس ما مورس عليهم، أو بتعبير بورغ«تتشابه أيادينا مع أيادي عيسو والآخرين ». إذن، دور كل مفكر سواء كان إسرائيليا، فرنسيا، أو غيرهما، يكمن في إلغاء طابوهات قبيلته. بالتالي، ما الذي يمنع دوبري حسب اعتقاده هذا، من كتابة ما يصرح به الإسرائيلي في الشارع والمقهى ؟ خاصة، وقد بدأ ينتابه الضجر، من سماع ترديد الديبلوماسيين والسياسيين لمقولة أضحت لازمة: «ما تتحدثون عنه صحيح، لكن ليس في وسعنا قوله». منطق، بلا شك يغذي مشاعر معاداة السامية والضغينة ضد طفل الغرب المدلّل، كما يجعل مقترحات الأممالمتحدة بلا مضمون واقعي. وأهم ذلك، استمرار تمسك إسرائيل بلغة الخشب، يعني سعيها الاختياري لانتحارها الذاتي وبشتى الطرق. مما، يقتضي الأمر، الإقرار نهائيا بحدود لها، تقطع مع قاموس تراجيدي ومرعب يتضمن عبارات من قبيل : «القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، غير قابلة للانقسام». لقد شكلت الصهيونية، بداية ثورة عقلانية ضد الحاخامية وتمردا على الله، لهذا رفضها في العمق جمع من المتدينين الأرتوذوكسيين. وتبقى ذكرى هيكل سليمان، أهم ما وحد قاعديا الشعب اليهودي. حينما، استقر بالأرض الموعودة وليس أوغندا أو مدغشقر...، تمكن منه ثانية اللاوعي الديني. فوجد، الصهاينة العلمانيون أنفسهم منجذبين تجاه ماض، توخوا تجاوزه، لكنهم اكتشفوا فيه شرعيتهم الوحيدة. إجمالا، نقف على مصدرين للدولة الإسرائيلية، واحدة قامت على الدم والعرق، تنتسب إلى يعقوب، ثم تلك المنحدرة من إبراهيم وموسى. مع النموذج الثاني، لا تعلل إسرائيل قط بمفاهيم «هم أن نحن»، والتمادي في احتقار الجيران، لكن «معهم ذات يوم». فأن، تكون يهوديا يبرره الإيمان اليقيني والعمل بمجموعة قيم، وإلا فكيف بمجتمع على قدر من التطور يتفاعل مع سينمائييه ومسرحييه وباحثيه ومفكريه الاستثنائيين... التحول ذات يوم إلى قلعة مغالية في التطرف وبنية أصولية يهيمن عليها الجيش، يجيز له إله الطمأنينة كل أعمال العنف ؟ مسار يدق ناقوس الخطر، لذلك التجأ دوبري رغم دعوته الكبرى للعقل إلى الصلاة أيضا، حين تمنى استسلام التوراة اليهودية «العسكرية ذات النزوع الإثني الفظيع» أمام أخرى «كونية على نحو مثير للإعجاب ومسالمة جدا». فمتى يتم إمساك الثور من قرنيه ؟ [email protected]