ها نحن نلتقي من جديد.. صيف هذا العام سيذكرك بصيف الستينيات الذي كان، بالنسبة إليك، صفرة المفارقة التي تعكس عنفوان الحياة في عز الموت.. ونحن أمام صفرة الحقول التي استمدت من الشمس نسغ الحياة، ودبيب الموت، لاتمل من ترديد دلالة اللون في الرسم، وهي غيرها في الأدب.. وتنبسط أساريرك فجأة وتقول: صفرة الموت؟. وهذه السنابل الصفراء.ألا توجد، الآن ، في أعلى مراقي الحياة، في استقطار آخر لحظات المتعة وهي تغوص في عمق رحم الأرض.. أنتم الأدباء أسارى النمطية الجاهزة، والرسامون يركبون صهوة المغامرة الدائمة.. وفي هذه الأثناء، عرجت على رسامك الأثير» فان جوخ» ، وأنت تتابع الكلام، عن الذين يرسمون بالشمس، ولايرسمون الشمس. ماهذه الألغاز؟ ابتسمت نصف ابتسامة وقلت بصوت خفيض: كان «فان جوخ» يرسم في عز الظهيرة، بعد أن قذف بقبعة القش بعيدا، في الوقت الذي تتحول فيه أشعة الشمس إلى شواظ من لهيب تخترق أسياخه كل المسام.. و يصبح الرسام، حينذاك، شظية من شظايا اللهيب الذي عمده من رأسه إلى أخمص قدميه.. كان «فان جوخ» يريد رسم الحياة في عنفوانها.. أما رسم الشمس، فذلك يعني وضع حاجز بين الرسام والمرسوم.. ويصبح هذا الأخير مجرد مادة تجريبية لاتواصل بينها وبين الرسام.. تذكر ضربات الريشة العنيفة وكأنها آثار أظافر جثة تنحت في الصخر.. كانت الريشة إ زميلا لاختراق حواجز الرؤية والرؤيا.. لا وجود لطبيعة - على عادة الرسامين- ميتة عند «فان جوخ» . لوحة الكرسي توحي للرائي بأنه في حالة انتظار لجالس لم يغادره إلا منذ برهة وجيزة.. ولوحة الحذاء، تفوح برائحة عرق عكست تعب صاحبها كما دلت عليه السيور الجلدية المضطربة مثل غدائر سويت على عجل.. والقنطرة الخشبية ترنو إلى السماء بأضلاعها الخشبية المتقاطعة وكأنها صلبان تنتظر من يحمل عنها آثام السابقين واللاحقين..كان «فان جوخ» يريد اعتقال الحياة قبل أن ينتشر العدم في تلافيف الروح والعالم.. منذ أيام - وهذا العام نسيج وحده في الفقدان- غاب رسام الكاريكاتير» محيي الدين اللباد»، تلميذ الكاريكاتير الشهير « عبد السميع». ما زلت محتفظا بهديتك الثمينة عن هذا الأخير. كتيب ، بالأسود والأبيض- وهو هدية من المركز الثقافي المصري في ذلك الزمن الرخي- لرسومات « عبد السميع»من خلال شخصيتيه الشهيرتين: المصري بطربوشه وسبحته ولباسه العصري وضحكته الساخرة، والإستعمار، خاصة الأمريكي، بقامته الفارهة ، وطربوشه الشبيه بصفيحة زبالة مقلوبة، وأنياب بارزة.. صراع دائم ، يشبه صراع القط والفأر، ولامفر لهذا الأخير من جبروت القط، إلا عن طريق تدبير المقالب.. ويضع سره في أضعف خلقه! عندما يغيب الرسام يصبح الفقدان مضاعفا: فقدان الكائن أولا، وفقدان الدليل إلى ما يخفيه الكون من مفارقات و ألفة وجمال.... ولو كان أقرب إلينا من حبل الوريد.. إلى اللقاء.. هذه الزاوية مفتوحة للمبدعين وعموم القراء، يوجهون عبرها رسالة إلى كاتب مغربي أو أجنبي، حي أو متوفى. عنوان المراسلة:[email protected]