وجه نادر آخر، من الوجوه التي طبعت تاريخ المغرب السياسي خلال عقود طويلة وبدت صامدة رغم التحولات وصداماتها، يغيب عنا. لقد غابت عنا وجوه أخرى لها قيمتها الغالية، إلا أنها لم توف حظها الكامل يتناسب ودورها التاريخي الرائع. ولعل هذه سمة تطبع واقعنا المغربي، إذ تتراجع مساحات التأريخ الشعبي لفائدة امتداد مساحات تاريخ نشرات الأخبار الرسمية. ومما يزيد من فداحة المصاب أنه ما أن يغيب عنا وجه من هذه الوجوه حتى تكون الأقلام النهازة هي أول من يسارع للكتابة عنها وقد تكثر هذه الكتابات إلى حد الإسفاف، مما يشكل إساءات فاضحة ضد بلدنا وتاريخها ورجالاتها. ومما يزيد من هول الأمر هو هذه «العادة المغربية» المتمثلة في عزوف كبار رجالاتنا عن كتابة سيرهم أو حتى تسجيل أهم مواقفهم حيال أهم القضايا التي ساهموا في صياغتها أو أثروا فيها بشكل مباشر. فلا عجب والحالة هذه، أن ننتظر خلال الأيام والأسابيع القادمة غارات قاصفة من الكتابات الادعائية وشهادات الزور، بينما الأمر وكل ما فيه هو وضع الراحل المرحوم المحجوب بن الصديق في إطاره الحقيقي ضمن تطور أهم الأحداث السياسية في المرحلة الأخيرة من الاستعمار في بلادنا، ثم بعد ذلك، بداية تأسيس المغرب الجديد، وما اعترى ذلك من صراعات اتسمت أحيانا بالدموية وأخرى بالحدة و.... بالمراوغات والدسائس. قبل بزوغ جيل المحجوب بن الصديق والمهدي بنبركة وعبد الله ابراهيم وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الهادي بوطالب وعلي يعتة وعبد الرحمان اليوسفي، ومن على شاكلتهم، كان الصراع واضحاً بين الاستعمار وبين الوطنيين التقليديين ذوي المطالب المحدودة. لكنه ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وشيوع مبادىء الحرية والاشتراكية تولدت طموحات جديدة مع صعود أو انبثاق فئات فتية ذات مرامي تمس أحيانا حتى بمصالح بعض الجيوب الجشعة داخل الجسم «الوطن» نفسه. اتسعت رقعة الطبقة العاملة مع العقد الأخير من عهد الاستعمار، كما أدى الضغط الاستعماري في نفس المرحلة الى انبثاق حركة المقاومة المسلحة بقياداتها الخاصة، فكان لهذين العاملين التاريخيين أثرهما العميق في إعادة تشكيل اللاعبين في الميدان السياسي وظهرت قيادات جديدة تلائم المرحلة، وما أفضت إليه من تحولات، وكان المحجوب بن الصديق من أبرز هذه الوجوه، إذ لعب دوره في المجال الوطني وعلى الصعيد العربي، كما كان لمنظمة الاتحاد المغربي للشغل بقيادته دورها الطلائعي على الصعيد الافريقي. إن العمل النقابي يعني العمل الجماهيري الأكثر اتساعاً والأكثر التصاقا مع انشغالات وهموم الناس اليومي، كما أنه العمل الذي يعرض القائمين به للنقد والنقد الحاد الى ذلك يفتح المجال أمام الكثير من الانزلاقات والتجاوزات. وإن الموضوعية التاريخية لتقتضي أن يتم تقييم دور المحجوب بن الصديق في هذا الإطار بصفته التراثية والوطنية وكمعلمة يجب النظر الى إنجازاتها وإخفاقاتها كجزء من هذا العمل الجماعي ذي القيمة التاريخية التي تتعدى حدود النقد والمؤاخذة لتوضع في إطار التنويه والإنصاف. أيها المحجوب، صفيرة القطار ترن ولا أحد يعرف بالضبط هل تعلن الوصول أم الانطلاق، وحدها عجلات التاريخ تعرف في أي اتجاه تسير.