بعض كتبة جريدة «التجديد»، عليهم أن يجلسوا في الصفوف الأمامية، في الفصل الدراسي الخاص بتجارب الشعوب، لكي يتلقوا «الدرس التركي»، عسى أن يتمكنوا من استيعاب مضامينه، إذا استطاعوا لذلك سبيلا. الدرس التركي، ليس، كما قالت جريدة «التجديد» المغربية: «أكبر شهادة على نجاح الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية المحافظة في توسيع الحريات وتجسيد القواعد الديمقراطية». الجريدة نفسها أضافت بأن «الدرس التركي واضح في أن تصحيح علاقة الشعوب بهويتها الإسلامية يمر عبر البوابة الديمقراطية». لا علاقة للأمر بالبعد الإسلامي للحزب التركي، فالحزب لم يكن في الاستفتاء الذي اقترحه مهتما بترتيب أوضاع الشعب التركي في الآخرة. لأنه حزب في هذه الدنيا ويسعى إلى تطوير حياة الشعب التركي في هذه الدنيا. والاستفتاء لم يكن حول تطبيق «الشريعة» في الإدارة السياسية للبلد. الاستفتاء على مجموعة من التعديلات الدستورية في تركيا، والتي صادق عليها الشعب التركي بأغلبية أصوات ناخبيه، فرضته حاجة تركيا إلى تعميق دمقرطة نظامها السياسي، والتقليص من « وصاية العسكر» عليه. وهي في ذلك تستجيب لتطور في التراكم النوعي للممارسة الديمقراطية للشعب التركي، كما أنها تعبد الطريق، وتزيل منها عوائق، للمرور إلى الاتحاد الأوروبي. والاندماج في الاتحاد مطمح كل الشعب التركي، و»العدالة و التنمية» التركي يجتهد لتحقيقه. ولعل توغل الحزب في ممارسة الحكم في تركيا، وهو يحافظ على ما انحفر في المجتمع من الإرث «العلماني» وينصهر في الموجهات الاستراتيجية للدولة التركية... لعل ذلك هو ما يقلص من البعد «الإسلامي» في الحزب، وقادته أنفسهم يرددون أن حزبهم مماثل للأحزاب «الديمقراطية المسيحية» الأوربية. الحزب «الإسلامي» في تركيا لا يجتهد في الاستجابة للمطلوب الدولي (بالدقة الأوروبية) منه، لكي يتكلف بالآذان في أوروبا، حين تقبل عضويته بكامل حقوقها وواجباتها في الاتحاد الأوروبي، ولو بعد جهود وعقود. هو يعرف بأن، عليه أن يؤهل البلد للاندماج في «القيم» الأوربية... وضمن ذلك التمرين، أن يتصرف كما هي أحزاب في أوروبا ذات المرجعية المسيحية، فلا يسحب مرجعيته «الدينية» على إدارة الشأن العام. وهو ما يفرض اعتبار الدولة، دولة المواطن، باختلاف معتقدات وتوجهات وميولات المواطنين، وليس دولة المؤمن، التقي والورع، في مواجهة غير المواطن، الجانح، الكافر أو المرتد. حزب العدالة والتنمية التركي، حزب أوروبي من حيث الثقافة العامة، وحزب مشبع بالخصوصية التركية في النسيج الأوروبي. النبض «الشرقي» في أوروبا، الذي «أوربه» كمال أتاتورك، وضخ في شرايينه أنفاس العلمانية. الحزب تركي خالص، وقد سرت فيها «الثقافة التركية» الخاصة. حزب إسلامي، بالمعنى الهوياتي لإسلاميتهّ، وليس بالمدلول العقائدي. حزب مخفف من كل أثقال وأعمال «الدروشة» اللصيقة بالعديد من الأحزاب المتأسلمة في «دنيانا» العربية. إنه حزب تركي خالص. مصلحة تركيا هي عقيدته الأساس. حزب لا يوجهه يوسف القرضاوي ولا «المتأسلمة» في منظومة «الأممية الإسلامية»، العابرة للحدود والأوطان والخصوصيات الثقافية والمصالح الوطنية للشعوب. إنه حزب تركي خالص، يعي أنه ملزم بالتعاقدات الاستراتيجية للدولة التركية، مع شعبها ومع محيطها، وهي تعاقدات، «شريعتها» الرئيسة مصالح تركيا الخاصة. الحزب حل في موقع إدارة الدولة عبر المسالك الديمقراطية. وهو اليوم يؤمن ويرسخ تلك المسالك، ضد كل نزوع انقلابي، ويمنع نفسه، هو الأول، من كل مسعى انقلابي ضد الخصوصيات والمصالح التركية. إنه درس هام، في مجال العلاقة بين الحزب والدولة، لمن أراد أن يولد من التجربة التركية دروسا. الدولة أهم من الحزب، والوطن أهم من الإيديولوجيا. درس آخر هام: الديمقراطية التي انتصرت وتعززت في تركيا، حزب العدالة والتنمية كان فيها الديمقراطي الوفي للمسار الديمقراطي التركي، لأنه أصلا منتوجه وثمرة من نبات تربته. نضال الشعب التركي لإقرار الديمقراطية، في مواجهة الدكتاتورية العسكرية، كان مؤلما، طويلا وموحدا لكل حساسيات المجتمع السياسي التركي ضد العسكر، وقادة ومناضلو الحساسية الإسلامية جزء منها. الاختيار الديمقراطي قناعة أصيلة، لدى الحزب، وليس «تقية» أو مجرد معبر للتسلل إلى «التمكن السياسي». الحزب أدار استفتاء لتعميق دمقرطة النظام السياسي ونجح فيه لأنه حزب قدم نفسه للشعب التركي في وجه ديمقراطي. وللتدقيق، الشعب التركي هو من نمى الميل الديمقراطي فيه، عبر امتحانات شعبية من نوع المعركة حول الحجاب... لا يهم اليوم، أن نقول بأن العدالة والتنمية التركي، فعلا حزب ديمقراطي، يهمنا، أن نلح على أنه أساسا حزب... حزب انشغل وينشغل بالسياسة. حزب قدم للشعب التركي ما يفيد تطور حياته على المستوى الوطني كما على المستوى المحلي. اقترح على المجتمع سياسات اجتماعية واقتصادية رفعت من مستوى عيش المواطن التركي، وحسنت الموقع التفاوضي لتركيا في مجالها الأوربي ونمت قدراتها كفاعل وقوة إقليمية في الشرق الأوسط، لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها. حزب لا يفتعل «معارك»، لا تسلي حتى الأطفال بأن يجعل من حفل «ختان» مشغلة في البرلمان، أو مناهضة حفل غنائي لفنان «مثلي»، لا يرغم أحدا على أن يكون مثله.. كما أنه لم يجعل من الاعتراض على المهرجانات الفنية والتحريض ضدها، سياسة مبدئية وذات أولوية لديه. ولم يعمل على تنظيم التظاهرات أمام بعض المراكز التجارية لمنع بيع الخمور فيها، مما قد يلصق به شبهة الدفاع عن مصالح تجار السوق السوداء، الموجودة في كل بلاد الله التي تمنع «تداول» الخمور فيها. الحزب التركي، لم يتخصص في ترصد وإحصاء عدد القبلات في الأفلام وما إذا كانت «بريئة» وحلالا أو «متهمة» و حارة وتؤدي إلى ما «لاتحمد عقباه». وبالتالي لم يرفع صوته بالتحريم والويل والوعيد ضد الإبداع السينمائي. وهو يكون إبداعا، حين يعرض الحياة الإنسانية بكل تفاصيلها، بأحزانها وأفراحها وآلامها وآمالها وأناتها وآهاتها. إنه حزب لم يأمر، المنتجين السينمائيين في تركيا بالتخصص في صنع أفلام حول وقائع الدعوة الإسلامية...في «ظل» حكمه، واصلت السينما التركية ازدهارها بإنتاجها المنفتح على الحياة، وفي القلب من الحياة، حب الحياة و ... الحب في الحياة. بعض كتبة «التجديد»، القديم مستبد بهم، بما يجعل تلك المعاني في الدرس التركي عصية على أفهامهم. «سيشمرون» على أقلامهم ليمارسوا ما تعودوا عليه...الشتيمة...دعهم فيها «يعمهون».