إن الاهتمام باكتشاف الآخر والوعي بوجوده لم يكن أمرا مطروحا في الفكر العربي الإسلامي بقدر ما هو مرتبط بتغيرات فرضتها التحولات التاريخية التي شهدتها ضفتي البحر الأبيض المتوسط، حيث يبقى مفهوم الآخر في الضفة الجنوبية من المفاهيم المرتبطة بالحداثة الغربية، بالرغم من أن كل الثقافات والحضارات الإنسانية تحمل صورة ما للآخر الذي ترى الذات أنه مخالف لها ومختلف عنها في نظم الحياة كلها، في العادات والتقاليد واللغة والدين،وبالنظر إلى الصورة التي ترسمها الذات للآخر، فإنه يتبين أن تلك الصورة تحمل مزيجا من العواطف والأحكام، تتصف أحيانا بالتحقير والتهجين والتنقيص والرفع من مستوى الذات وأحيانا أخرى تحمل هذه الصورة مشاعر التقدير والتعظيم والغرابة، ورغم تأرجح موقف الأنا من الآخر الذي تحكمه موازين القوى بين الطرفين، فتمثل الذات للآخر لا يأتي من فراغ وليس تصورا اعتباطيا بقدر ما هو نتاج ثمرة وعي ومعرفة سابقين، فالتمثل بالنسبة لادغار موران EDGAR MORIN هو تركيب ذهني ذو طابع شمولي ومتناسق ودائم وقار ناتج عن عملية بدائية انطلاقا من أثر الواقع على حواسنا وذاكرتنا ومن الاستيهامات التي تجعلنا نفضل جوانب على أخرى، بمعنى أن الصورة التي تختزنها الذات عن الآخر لا تتسم بالعفوية ولا تكون نتيجة للمشاهدة والاتصال فقط، بل إنها تستمد أسسها مما أسماه الباحث سعيد بنسعيد العلوي بالمنظومة المرجعية الثقافية. لفهم الصورة التي نقلها إلينا السفير أحمد بن قاسم الحجري عن الآخر الأوربي خلال رحلته إلى كل من اسبانيا وفرنسا وهولندا من اجل استرجاع ما ضاع من الطائفة المورسكية اثر طردها من الأندلس، لابد أن نستحضر السياق التاريخي الذي جرت فيه الرحلة والعوامل المتحكمة في هذه الصورة، سواء منها الذاتية المتعلقة بشخصية السفير ومرجعيته الثقافية واحتكاكه مع الآخر، أو الموضوعية المتعلقة بالظروف التاريخية حيث عرفت نهاية القرن الخامس عشر الميلادي مجموعة من التحولات كان لها أثر كبير على تاريخ البحر الأبيض المتوسط، حيث شكلت سنة 1492حدثا أساسيا يستوجب الوقوف عنده، فالكشوفات الجغرافية واكتشاف أمريكا احدث تغيرا في ذهنية الإنسان الأوربي وأصبح هذا الأخير على وعي بمؤهلاته وقدراته في السيطرة على العالم، لذلك فهذه السنة وماتلاها من قرون شكلت المنعطف الحقيقي لبداية ازدهار النهضة الأوربية، في حين لم تشكل هذه السنة في الضفة الجنوبية والمجال العربي الإسلامي ككل إلا زمن الانتكاسات بضياع الأندلس وطرد المسلمين منها وتراجع الهيمنة الإسلامية على المتوسط لصالح أوربا التي انتقلت مع بداية ق16 من مرحلة الاكتشاف إلى مرحلة التوسع على حساب الحضارات الأخرى، ومنذ هذه الفترة اخذت الهوة الحضارية تتسع وتتعمق بين ضفتي المتوسط، خاصة بعد أن فقدت الأمة العربية الإسلامية توازنها أمام صراع قوتين متعارضتين الإمبراطورية الاسبانية والإمبراطورية العثمانية التي تعتبر نفسها الوريث الحقيقي لهذه الأمة، وفي إطار هذا الصراع جاءت رحلة أحمد بن قاسم الحجري (افوقاي) «ناصر الدين على القوم الكافرين» سنة 1610 إلى كل من اسبانيا وفرنسا وهولندا متزامنة مع هذه التحولات، وتكمن أهمية هذه الرحلة في كونها شاهدة ومعبرة عن نمط الحوار الذي كان قائما بين «دار الإسلام» متمثلة في المغرب والإمبراطورية العثمانية من جهة و «دار الكفر والحرب» متمثلة في أوربا من جهة أخرى . شكلت اسبانيا الحلقة الكبرى ضمن هذا الصراع نتيجة تواجد الطائفة المورسكية بها، حيت لجأ الملك الاسباني إلى اتهام هذه الطائفة بالتواطؤ مع العثمانيين من أجل استعادة الأندلس، واستغلت اسبانيا هذا الاتهام لإشعال فتيل الحرب ضد المورسكيين تجسيدا لصراعها مع العثمانيين. وشكلت مسألة طرد هذه الطائفة من الأندلس المحور الأساسي لهذه الرحلة، كما شغل الحوار الحضاري بين الحجري ورجال الدين وبعض النخب الأوربية حيزا مهما ضمن فصول الرحلة .فالحجري كمورسكي عاش الوضعية التي كان عليها المسلمين في الأندلس طيلة القرنين 15و16م فهو لم يخف قلقه الشديد على هذه الطائفة متأثرا بما تعانيه من مضايقات جراء مجموعة من القرارات التي أصدرها فليب الثاني في حقها والرامية إلى تضييق الخناق عليها، وكان ذلك بإيعاز من البابا الذي أبلغ الملك الاسباني بضرورة اتخاذ تدابير صارمة ضد هذه الأقلية، كما اعتبره البابا مخطئا في التسامح الذي أبداه في ترك المورسكيين يمارسون عاداتهم وتقاليدهم الإسلامية، ونتيجة هذه القرارات تشكلت لجنة من اجل تقنين هذه الممارسات، كما أصدرت هذه اللجنة عدة توصيات كان من أهمها منع استعمال اللغة العربية ومنح المورسكيين مهلة ثلاثة أعوام لتعلم اللغة القشتالية، وكل المعاملات والعقود بالعربية تصبح لاغية. ودفعت هذه القرارات المورسكيين إلى مواجهة مباشرة مع الحكومة الاسبانية تصديا لحملة التنصير التي استهدفتهم، لتندلع بذلك الثورة الكبرى في غرناطة، إلى جانب المواجهة المباشرة لجأ المورسكيون إلى أسلوب يرتكز على مبدأ التقية الذي قال عنه الحجري في رحلته هاته «وكانوا يعبدون دينين، دين النصارى جهرا ودين المسلمين في خفاء من الناس وإذا ظهر شيئا من عمل المسلمين يحكمون فيهم الكفار الحكم القوي يحرقون بعضهم كما شاهدت...من عشرين سنة قبل خروجي منها» ويقصد الحجري هنا محاكم التفتيش التي كانت تقام في حق المورسكيين. وقد تفاعل المغرب بشكل مباشر مع هذه التطورات حيث استجاب المولى زيدان السعدي لشكوى الطائفة المورسكية اثر طردها من الأندلس، وتدخل بإرسال الحجري لكي يدافع عن حقها واسترجاع ما سلبه منها قراصنة البحر الأوربيين، وقد حمل الحجري كتاب السلطان متنقلا بين المدن الأوربية غرناطة وباريس وبوردو وسان جون دولوز وأمستردام ولاهي، إلى جانب مساعي أفوقاي الدبلوماسية لاسترجاع حق هذه الطائفة، كانت للرحلة أيضا أهمية في وصف مظاهر المدنية الأوربية، كما تتضمن الرحلة أيضا أبعادا ثقافية وفكرية. بدءا بعنوان الرحلة «ناصر الدين على القوم الكافرين» وبالنظر إلى الانتماء الحضاري والعرقي لصاحب الرحلة والقضية التي يدافع عنها أمكن لنا أن نستشف نوعية الصورة التي رسمها الحجري للآخر، كما يمكننا أن نستنج من ذلك أيضا طبيعة العلاقة التي كانت بين الأنا والآخر في هذه الفترة، فأول ما تراه الذات المورسكية عندما تنظر إلى الآخر الأوربي أنه خائن للعهود والمواثيق، والدليل على ذلك ما فعله نصارى الأندلس بالمسلمين من تعذيب وإحراق رغم المواثيق التي وقعها الطرفان والتي تنص على ضمان حريات المسلمين في الأندلس، لكن الحكومة الاسبانية تجاهلت ذلك وأعلنت قرار الطرد في هذه الطائفة التي بقيت صورة الآخر لديها راسخة في كونه الاسباني ذو الشخصية المتناقضة الميكيافلية. ومنذ أن شرعت الحكومة الاسبانية في تنفيذ قرار الطرد بدأت الصورة بين الطرفين تأخذ طابع المواجهة والصراع العنيف بأساليب متعددة. وإلى جانب أسلوب العنف برز الجدال الديني كأسلوب للمواجهة بين الطرفين من خلال المناظرات والحوارت الثنائية التي دارت بين الحجري ممثل الضفة الجنوبية ورجال الدين المسيحيين ممثلي الضفة الشمالية، حيث اعتبر كل طرف هذا الجدال بمثابة الوسيلة للدفاع عن الهوية الحضارية واعتقاد كل طرف أن ما يزعمه صحيحا وما يدعيه الآخر خاطئا، فمحور هذا الجدال يدور حول المقارنة بين عقيدتي التثليث والتوحيد وعادة ما ينتهي الحوار في نص الرحلة بانتصار الحجري على محاوريه. كما وقع الجدال بين الطرفين أيضا حول أمور فقهية كثيرا ما كانت سبب الخلاف بين المورسكيين والمسيحيين كما هو الشأن بالنسبة للصوم وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير. وإلى جانب هذه الصورة الطاغية على فصول الرحلة اهتم الحجري بجوانب تخص مجتمع الآخر من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، فعلى المستوى الاقتصادي تمثل افوقاي أوربا بأنها إقطاعية قائمة على أساس التحالف بين رجال الدين وكبار ملاك الأرض، وتحدث عن التجارة ونشاطها باعتبار المدن الأوربية مراكز تستقبل الأساطيل التجارية من جميع النواحي، وأعطى نموذج أمستردام الهولندية التي قال عنها« لم تكن في الدنيا مدينة بكثرة السفن مثلها» وتحدث الحجري أيضا عن التجار الاروبيين الذين جابوا أماكن بعيدة متنبها إلى أن البحار أصبحت تحت مراقبة الأساطيل الأوربية. وفي الجانب الاجتماعي رأى الحجري في تحرر المرأة الأوربية وتبرجها ومخالطتها للرجال في مجالسهم دليل على نوع من الإباحية وفساد الأخلاق، فالمرأة الأوربية بالنسبة إليه أداة الشيطان التي لا يجدي المرء في مقاومة غوايتها إذ يعترف هو نفسه بضعفه أمامها، كما حصل له عند ملاقاته إحدى بنات أكابر مدينة بوردو التي قال عنها « قالت لي أعلمك تقرأ بالفرنج...وصرت تلميذا لها...وكثرت المحبة بيننا حتى ابتليت بمحبتها بلية عظيمة، وقلت قبل ذلك كنت في خصام مع النصارى على المال وفي الجهاد على الدين، والآن هو الخصام مع النفس والشيطان». وفي الجانب التكنولوجي تعرف الحجري في عدة مدن أوربية على مؤلفات كتبت بالقالب أي المطبعة وعلى مخترعات تكنولوجية بسيطة «كالبنبة» آلة رفع الماء التي طلب من راهب يحسن العربية أن يريه حيلها ويطلعه على أسرارها. من هذه الجوانب كلها استطاع الحجري أن ينقل إلينا صورة عن مجتمع الآخر انطلاقا من مرجعيته الثقافية ومعرفته السابقة له، وعمل في ذلك على إبراز جوانب ضعف هذا الأخير وإبراز معالم تفوق الأنا والاعتزاز بهويتها، وتعتبر هده الرحلة أيضا تعبيرا عن لحظة كان فيها الإنسان العربي ما يزال معتزا بذاته وينتقص من قيمة الآخر باعتباره مسيحي كافر، لذلك فرحلة الحجري وما تلاها من الرحلات السفارية خاصة إلى حدود النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي ما هي إلا تجسيدا لهذه اللحظة والتي عبرت عنها بوضوح رحلتي الوزير محمد بن عثمان المكناسي إلى كل من اسبانيا وايطاليا. (* ) طالب باحث: كلية الآداب عين الشق