في هذا الحوار يكشف حميد كجي رئيس التعاضدية العامة للبريد والمواصلات ل «الاتحاد الاشتراكي خبايا الخروقات المالبة والتلاعبات التي طالت آلاف الملفات المرضية المتراكمة عن سنوات 2006، 2007 و2008 بالاضافة إلي ما كشف عنه تقرير وزارة المالية من خروقات ادارية وتنظيمية داخل هذه المؤسسة، كما يسرد رئيس التعاضدية العامة للبريد والمواصلات تفاصيل المخطط الاستراتيجي للاصلاح الذي اعتمده المجلس الاداري الجديد و التحديات التي واجهها في إصلاح شؤون هذه التعاضدية.. عندما تقلدتم مسؤولية تدبير التعاضدية العامة للبريد والمواصلات سنة 2009 وجدتم على مكتبكم تقريرا للمفتشية العامة للمالية، كيف تعاملتم مع الأمر؟ بداية دعوني أشكركم في جريدة الاتحاد الاشتراكي على إتاحة هذه الفرصة لنا في التعاضدية العامة للبريد والمواصلات MGPTT للتواصل مع منخرطيها ومع الرأي العام الوطني. وفيما يخص الجواب عن سؤالكم، فإن أول خطوة قمنا بها في المجلس الاداري هو تمحيص ودراسة تقرير المفتشية العامة للمالية، باعتباره تشخيصا للوضعية التي توجد عليها هذه تعاضدية MGPTT، من الناحية القانونية والادارية والمالية والتدبيرية. وبالتالي كونا فكرة حول الأولويات وترتيبها ضمن الخطة الاصلاحية التي انتخبنا من أجلها من قبل منخرطي ومنخرطات هذه التعاضدية شهر يناير 2009. وبالمناسبة اسمحوا لي أن أتوجه بالشكر الجزيل والامتنان، باسمي وباسم جميع أعضاء المجلس الاداري، لكل منخرط ومنخرطة وضع ثقته فينا، ولكل من ساهم من قريب أو بعيد في دعمنا. طيب؛ ما هي الاختلالات والخروقات التي سجلها التقرير؟ في هذا الاطار لابد من الوقوف عند الاسباب الرئيسية التي حملت سلطات الوصاية، في شخص وزارة التشغيل، على التعجيل بتنظيم الانتخابات الخاصة بتجديد أجهزة وهياكل تسيير التعاضدية العامة للبريد والمواصلات. وعلى رأس هذه الأسباب عدم قانونية المجلس الاداري السابق، الذي لم يتم تجديد عناصره منذ سنة 1978. ويمكن اعتبار ذلك أول خلل رصده التقرير. هذا إلى جانب رصده لمجموعة من الخروقات الادارية. ومن ذلك غياب نظام داخلي، غياب سجل لمحاضر اجتماعات المجلس الاداري، غياب هيكل اداري، عدم ملاءمة القانون الأساسي للقانون 65.00 المتعلق بالتغطية الصحية، اعتماد نظام محاسباتي متجاوز بالنظر للتطور الذي عرفه قطاع التعاضد وغير ذلك. ناهيك عن ضعف جودة الخدمات المقدمة للمنخرطين، وغياب بنيات الاستقبال وظروف العمل. في ظل كل هذه الفوضى إن صح الوصف كيف كان يتم تدبير هذه التعاضدية وما مدى تأثير ذلك على التوازن المالي لها؟ ربما من حظ تعاضدية MGPTT ومنخرطيها، رغم هذه الاختلالات الادارية والقانونية، أنها كانت بين أيد أمينة، حاول أصحابها قدر الامكان ووفق الامكانات المتاحة ضمان الحد الأقصى من التدبير الجيد لشؤونها ولأموال منخرطيها، وكذا ضمان الحد الأقصى من جودة الخدمات. وبفضلهم استطاعت هذه التعاضدية الاستمرار في تقديم خدماتها إلى اليوم. لكن هذا لا يعني عدم وجود خروقات على مستوى معالجة الملفات، التي عرفت العديد من التلاعبات بتواطؤ بين مستخدمين ومنخرطين والتي اكتشفها المجلس الاداري. أما تقرير المفتشية العامة للمالية فلم يسجل أي خروقات أو تلاعبات في أموال المنخرطين تهدد توازنها المالي. قلتم بأنكم وقفتم على تلاعبات في ملفات المرض بتواطؤ بين مستخدمين ومنخرطين، ما طبيعتها وكذا القرارات الادارية التي اتخذتموها في حق المتورطين؟ اكتشفنا الأمر عندما اعتمدنا تصفية الملفات بواسطة النظام المعلوماتي فقط )اسكيف( بعدما كانت تصفى من قبل على مرحلتين المرحلة اليدوية ثم المعلوماتية، وكانت آلاف الملفات متراكمة عن سنوات 2006، 2007 و2008، وهكذا وجدنا أن هناك تزويرا في الفواتير الطبية، معالجة ملفات مرض وهمية، ابتزاز وما يستتبعه هذا النوع من التلاعب. وقد مكننا تطبيق المساطر الجاري بها العمل من تخفيض حجم التعويضات المؤداة للمنخرطين وعقلنة تسيير والحفاظ على اموال التعاضدية وصرفها في التعويضات الحقيقية للمنخرطين بدل أن تذهب إلى جيوب المتلاعبين. أما عن القرارات الادارية المتخذة، فقد اتخذنا ما يمليه القانون علينا، فقد قمنا مباشرة بتوقيف المستخدم الذي ثبت لنا تورطه وأحلنا ملفه على القضاء، فيما أحلنا ملفات آخرين على الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي CNOPS الذي أحالها بدوره على القضاء، وهي ما تزال تحت أنظار هذا الأخير. أريد أن أضيف بهذا الخصوص أن اكتشاف هذا الوضع دفع المجلس الاداري إلى إحداث آلية للمراقبة الادارية الداخلية، حرصا منه على ضبط عمليات تصفية ملفات المرض، وإعداد تقارير شهرية عن سير هذه العملية، ترسل نسخ منها إلى الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي CNOPS. ما هي التحديات التي واجهتموها في إصلاح شؤون هذه التعاضدية؟ أول تحد واجهناه في المجلس الاداري هو تحسين جودة الخدمات وتقريبها من المنخرطين في ظل الوضع والظروف التي وجدنا عليها هذه التعاضدية، وكان أول عائق هو غياب مقر إداري يليق بالتعاضدية العامة للبريد والمواصلات وبمنخرطيها ومستخدميها. كان مقرا يرثى له، لا ظروف ولا وسائل عمل، لا ظروف استقبال مقبولة، كان مقرا لا يصلح لشيء سوى للهدم. ولذلك كان أول قرار اتخذه المجلس الاداري في أول اجتماع له يوم 05 مارس 2009 هو هدم وإعادة بناء المقر الأصلي للتعاضدية، وأقر أيضا توفير مقر مؤقت وفرنا من خلاله ظروف ووسائل العمل وظروف استقبال جيدة للمنخرطين، وحرصنا فيه على ضمان تزويد المنخرطين بالمعلومات وتلقي شكاياتهم إلى حين جهوزية المقر الجديد. كما خصصنا مقرا دائما للأرشيف. ومزيدا من التوضيح، بشأن قرار هدم المقر الأصلي وإعادة بنائه، فقد تمت المصادقة عليه في الجمع العام، وحصلنا على ترخيص سلطات الوصاية (وزارة التشغيل ووزارة المالية) لذلك. وقد باشرنا الأشغال، ومن المنتظر أن يكون جاهزا بمواصفات عصرية وحديثة بعد قرابة السنة من الآن. ويمكن اعتبار غياب هيكل تنظيمي وتقادم القانون الأساسي للتعاضدية العامة للبريد والمواصلات الذي أصبح متجاوزا بالنظر إلى التطور الذي عرفه قطاع التعاضد مع دخول قانون 65.00 حيز التطبيق- ثاني عائق واجهناه في المجلس الاداري. وقد بادرنا إلى إعداد الهيكل الاداري، وتحيين القانون الأساسي وملاءمته مع القانون 65.00، وأحلناهما على سلطات الوصاية للابلاغ قبل عرضهما على الجمع العام المقبل للنظر فيهما والمصادقة عليهما. عودة إلى تقرير المفتشية العامة للمالية، ما هي التوصيات التي أوصى بها؟ طبعا سرد التقرير مجموعة من التوصيات، حاولنا بناء عليها إعداد خطة إصلاحية مؤقتة، باعتبار الأولويات، كما أشرت إلى ذلك سابقا، وحرصنا فيها توخي سياسة القرب من المنخرطين. ومن هذه التوصيات ما تناولناه عند الحديث عن الخروقات والاختلالات الادارية والقانونية، وكذا عند حديثنا عن التحديات. ومن أهم هذه التوصيات أيضا إخضاع المنح الخاصة بالوفاة والتقاعد لضوابط قانونية واضحة، وذلك بخلق صندوق مستقل خاص بهذه الخدمات. وقد أنجزنا دراسة من طرف مكتب خاص للدراسات بهذا الخصوص، وأعددنا قانونا تنظيميا لهذا الصندوق على ضوئها، من المقرر أن نعرضه على الجمع العام المقبل للمصادقة عليه، قبل عرضه على سلطات الوصاية. أشرتم إلى اعتماد سياسة القرب، ماذا تقصدون بها وكيف تترجمونها على أرض الواقع؟ ببساطة، ودون تعقيد في المفاهيم، نقصد بسياسة القرب أن نكون قريبين من المنخرطين والمنخرطات، من مشاكلهم وهواجسهم وانتظاراتهم وتطلعاتهم، وأن نجد لها حلولا ترضيهم، فهم ناخبونا. وأما عن ترجمة هذه السياسة على أرض الواقع، فيكمن في الاستشارة الدائمة والانصات لهم. وأشير هنا إلى أننا لما أعددنا الخطة الاصلاحية المؤقتة بناء على ملاحظات وتوصيات تقرير المفتشية العامة للمالية، لم نقف عند هذا الحد، لأننا مدركون أن ما قدمه لنا التقرير من معطيات غير كاف لتكوين صورة واضحة عن انتظارات وتطلعات المنخرطين. ولذلك قمنا بجولة للانصات في جميع الأقاليم، التقينا خلالها مندوبي المنخرطين لتطعيم هذه الخطة، وإعداد برنامج استراتيجي. وهو ما تمكنا منه بفضل المندوبين مشكورين على تعاونهم ووقتهم وملاحظاتهم واقتراحاتهم. والآن بعد مرور السنة على توليكم هذه المسؤولية ما هي حصيلتكم؟ ما يمكن قوله الآن بشأن الحصلية بعد مرور سنة على تقلدنا مسؤولية هذه التعاضدية هو أننا حاولنا إلحاق التعاضدية العامة للبريد والمواصلات MGPTT بركب قطاع التعاضد بالمغرب، خصوصا بعد تطبيق قانون التأمين الاجباري الاساسي عن المرض 65.00 بمثابة مدونة التغطية الصحية، من خلال بعض ما تحدثنا عنه، وبفضل مجهودات كافة أعضاء المجلس الاداري مشكورين جزيل الشكر على تفانيهم وروح المسؤولية والانضباط لديهم. وفي هذا الاطار نريد التأكيد على أننا حريصون على الالتزام بالوفاء لمبادئ وقيم التعاضد المتعارف عليها دوليا، وعلى ضمان تدبير شفاف ونزيه لشؤون هذه التعاضدية ومنخرطيها. ورغم أن الحديث عن الحصيلة الآن سابق لأوانه بعض الشيء لأننا ما زلنا في بداية الاصلاح، ولأن المخطط الاستراتيجي الذي أعددناه على مدى سنتين ما يزال قيد التفعيل. ولكن ذلك لا يمنعنا من الكشف عن بعض ما قمنا به ونقوم به في سبيل تقريب وتجويد خدمات هذه التعاضدية. ومن ذلك أننا خلال الجولة التي أشرنا إليها اكتشفنا الحاجة الماسة إلى تقريب هذه الخدمات من المنخرطين جنوبالدارالبيضاء، ولذلك سارعنا إلى توفير مقر دائم بالدارالبيضاء. وما أريد التأكيد عليه هنا هو أننا استطعنا في هذه المدة تصفية كل الملفات المتأخرة عن سنوات 2006، 2007، و2008، وتقليص مدة الاسترجاع ملفات المرض، بعد أن كانت تبلغ السنة في أحيان كثيرة، إلى 17 يوما حتى متم غشت 2010. وهذا بفضل مجهودات المستخدمين والمستخدمات وتعاونهم مع المكتب المسير، ولا يفوتنا هنا أن نتوجه إليهم بالشكر الجزيل والاعتراف بما قدموه من خدمات. في إطار هذه السياسة أليس في مخططكم افتتاح مقرات أخرى في مدن أخرى من قبيل مراكش أو أكادير أو وجدة مثلا؟ أولا لا بد من التوضيح أننا قررنا افتتاح مقر دائم بالبيضاء لسببين رئيسين، أولهما تقريب الخدمات من المنخرطين جنوبالدارالبيضاء، وثانيهما لتواجد أكبر عدد من المنخرطين في هذه الجهة. أما بخصوص افتتاح مقرات أخرى، فقد تداولنا الموضوع داخل المكتب المسير والمجلس الاداري من مختلف الجوانب، وخلصنا إلى أن ذلك سيكون على حساب الخدمات الصحية التي هي عصب العمل التعاضدي. ولذلك فكرنا في حل أنسب لا يختلف عن هذا لكنه لن يكلف ميزانية التعاضدية الكثير. وهو عقد اتفاقية شراكة مع التعاضدية العامة لموظفي الادارات العمومية MGPAP تلتزم فيها هذه الأخيرة باستقبال منخرطي التعاضدية العامة للبريد والاتصالاتMGPTT في جميع مرافقها الادارية والاجتماعية والصحية، في المندوبيات التابعة لها عبر كل الأقاليم والجهات المتوفرة فيها، وتضمن لهم الاستفادة من الخدمات التي تقدمها هذه المرافق وكذا الخدمات الطبية التي تقدمها العيادات التابعة لها بنفس تسعيرة منخرطيها. وكل هذا في مقابل قيام التعاضدية العامة للبريد والمواصلات بتوصيل ملفات مرض ومراسلات التعاضدية العامة لموظفي الادارات العمومية إلى المقر المركزي بالرباط. وهنا مرة أخرى اسمحوا لي بشكر وتقدير المجلس الإداري والمكتب المسير للتعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية MGPAP وعلى رأسهم الصديق والرفيق عبد المولى عبد المومني رئيس المجلس الأداري. وإلى جانب ما تناولناه من قبل، فقد قمنا بتحديث وعصرنة التعاضدية العامة للبريد والمواصلات، حيث بدأنا نرسخ ثقافة التواصل مع المنخرطين من خلال سياسة القرب التي أشرنا إليها سابقا. وفي إطارها أصدرنا ) دليل المندوب( عرفنا فيه المندوبين بكل حقوق وواجبات المنخرطين، كما ضمناه كل ما يتعلق بالعمل التعاضدي والتأمين الأجباري عن المرض. ونحن الآن بصدد إعداد نشرة تواصلية داخلية مع المنخرطين لاطلاعهم دوريا على التقدم الذي نحرزه في تنفيذ ما التزمنا به. كما أنشأنا موقعا إلكترونيا للتعاضدية (www.mgptt.ma). وغير ذلك. خلاصة القول أننا استطعنا في ظرف وجيز تحديث وعصرنة التعاضدية العامة للبريد والمواصلات بما يخدم مصالح المنخرطين ويضمن جودة الخدمات وقربها. طرحت وزارة التشغيل للنقاش مطلع هذه السنة مشروع مدونة للتعاضد كبديل لظهير 1963، هل ترون المبررات التي قدمتها لطرح مشروعها هذا مقنعة؟ أبدا، وذلك لأن أهم المبررات التي تقدمت بها مردودة. وفي مقدمة هذه المبررات التي أوردتها في المذكرة التقديمية لهذا المشروع، عدم مسايرة الإطار القانوني (ظهير 1-57-187) المنظم للتعاضد للتطورات التي عرفها القطاع منذ 1963. وبالضبط عدم تفعيل بعض مقتضيات ظهير 1963 ولا سيما تلك المتعلقة بآليات المراقبة والتتبع والقواعد وغياب التأطير والدور التوجيهي للمجلس الأعلى للتعاون المتبادل ، وهذا المبرر مردود عليه لأنه يحمل في طياته نقيضه ويفند آخره أوله. فالذي يشكل عائقا ومشكلا أمام تطور قطاع التعاضد ليس هوعدم مسايرة ظهير 1963 للتطور، بل عدم تفعيل مقتضياته المتعلقة بالمراقبة والتتبع. وظهير 1963 نص على آليات المراقبة والتتبع والجهة المكلفة بها، والمشكل ليس إذن في الظهير، بل في السلطات التي يعود إليها الإختصاص في تفعيل مقتضياته وتحريك آليات المراقبة والتتبع. ونفس الشيء يقال عن المجلس الأعلى للتعاون المتبادل. هل لما حدث في تعاضديات أخرى من اختلاس وهدر لأموال المنخرطين علاقة بمبررات وتوقيت طرح هذا المشروع؟ نحن ما يعنينا اليوم ليس هو ما حدث، بل لماذا حدث ومن المسؤول عن حدوثه، وبالتالي سنعود إلى طرح السؤال: من المسؤول عن عدم تفعيل مقتضيات وآليات المراقبة والتتبع والزجر؟ طبعا إنه سلطات الوصاية، وهى المخولة والتي عليها الإجابة عن السؤال: لماذا لم تطبق هذه الآليات لوقف الهدر والاختلاس والتلاعب وما إلى ذلك من خروقات قانونية وإدارية ومالية وتدبيرية؟ هل نفهم من هذا أن هناك نوايا ما تجاه القطاع؟ أو بعبارة أخرى هل هناك من يخطط للإجهاز على التعاضديات؟ نحن نشتغل في مجال التعاضد انطلاقا من قناعتنا ومبادئنا الشخصية التي تتماشى مع مبادئ وقيم هذا المجال، ولا يمكننا توجيه أصابع الاتهام هكذا إلى أي جهة كان. لكن هذا لا يعني أننا سنقف مكتوفي الأيدي. وما يجري اليوم في قطاع التعاضد لا يمكن فهمه إلا بالعودة إلى تاريخه، وإلى ظروف وملابسات إخضاعه لمقتضيات ظهير 1963 بعد أن كان خاضعا لظهير الحريات العامة الصادر سنة 1958. هذا الجواب يثير الكثير من الفضول ويلمح إلى أن وراء الأكمة جبل. فماذا تقصدون إذن؟ أقصد أنه لا بد من وضع مشروع المدونة هذه في سياقها الحقيقي، إذ أن المبررات الأخرى المتتالية في المذكرة التقديمية للمشروع، من قبل إصلاح نظام التعاضد، العقلنة والترشيد، وآخرها حماية أموال المنخرطين والحكامة الجيدة، ليست في الواقع إلا تمويها. فالأهداف الحقيقية للقوانين، ولما ادعته وتدعيه الحكومة من إصلاحات مرحلية، خلفياتها واحدة وتتلخص في نسفها للنظام التعاضدي الذي يعتبر أهم مكاسب شغيلة القطاع العام. وإن لم يتحقق ذلك كليا لحد الآن بسبب التضحيات التي قدمها المناضلون النقابيون في القطاع على اختلاف توجهاتهم السياسية والمذهبية فإن الحكومات المتعاقبة لم تيأس من إنجاز مخططها التصفوي للتعاضديات وإن على مراحل. لا بأس إذن من تذكير الحكومة ومعدي المشروع بهذه المراحل، وتنوير الرأي العام الوطني بما وصفته بالمخطط التصفوي للتعاضيات؟ هذا المقام لا يسمح لنا بالتفصيل، ولكن يمكن الإشارة لبعض المراحل الهامة التي تعرض فيها العمل التعاضدي لانتكاسات بسبب التدخل الحكومي في مساره. المرحلة الأولى، تتمثل في صدور الظهير رقم 1-57-187 بتاريخ 12/11/1963. فمعلوم أن التعاضد كما هو الشأن بالنسبة للجمعيات هي فكرة جاءت مع الاحتلال الفرنسي وبلورها الأعوان والموظفون الفرنسيون في القطاع العمومي بمختلف الإدارات على أرض الواقع منذ أربعينات منذ القرن الماضي ليتمتعوا من خلالها بنفس الخدمات الاجتماعية التي يتمتع بها زملائهم في المتروبول وكانت تخضع لقانون 1901 الفرنسي المتعلق بالجمعيات. وفي بداية الاستقلال، ومع مغربة الإدارة، وضعت الحكومة مشروعي قانون سنة 1957 الأول يتعلق بالحريات العامة مقتبس من القانون الفرنسي أعلاه وصدر سنة 1958. والثاني يتعلق بالتعاضد لكنه لم ير النور بسبب تصدي المعارضة النقابية والسياسية له، ولم تستطع الحكومة تمريره حينها إلا في سنة 1963، وذلك بسبب الحصار الذي ضربه النظام آنذاك على العمل السياسي والنقابي نتيجة نجاح إضراب 1962 والمحاكمات والتعسفات التي طالت مناضلي المعارضة. وهو الظرف الذي انتهزته الحكومة ودفعت بالمصادقة على الظهير رقم 1-57-187 بتاريخ 12/11/1963 بمثابة قانون أساسي للتعاضد. أما المرحلة الثانية، فكانت مع إحداث الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي CNOPS كإتحاد للتعاضديات، ووضعه تحت وصاية الإدارة بسبب الظروف السياسية والاجتماعية التي عرفتها البلاد نهاية العقد 6 وبداية العقد 7 من الألفية الماضية. وهكذا أحدثت الدولة الصندوق آنف الذكر، وحولت له تقديم الخدمات المشتركة في إطار ما سمي «بالقطاع المشترك» وإحداث ما يسمى «الثالث المؤدي» وخصصت له نسبة 50% من اشتراكات المنخرطين المتعاضدين. لكن هذا الصندوق بدأ يعرف عجزا ماليا في خزينته واحتياطاته بسبب سوء تدبير الإدارة والتواطؤ مع مقدمي العلاجات والتحليلات والفحص بالأشعة، إلى جانب عدم مساهمة الدولة بحصتها في مداخيله كمشغل على غرار الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وهنا بدأ التفكير في وضع اليد بقبضة من حديد على التعاضديات من خلال الصندوق، ولإحكام الدولة سيطرتها على الصندوق وإخضاعه لهيمنتها من خلال اتفاق مبرم معها، اغتنمت فرصة عجزه المالي ورفعت نسبة مشاركة المنخرطين ودعمت خزينته لمواجهة ديونه وذلك على التوالي سنتي 1997 و 2002. علما أن الدعم الذي قدمته الدولة للصندوق لا يمثل إلا نسبة ضئيلة من المساهمة الذي كان مفروضا على الدولة أن تؤديها كمشغل والتي لو كانت أدتها لما عرفت ميزانية الصندوق عجزا. وبعد هذه الإجراءات جاءت المرحلة الثالثة، وتتمثل في إخضاع الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي والتعاضديات المتألف منها للقانون 00-65 بمثابة مدونة التأمين الإجباري الأساسي عن المرض. هل هذا يعني أن القانون 65.00 بمثابة مدونة التغطية الصحية جزء من المخطط التصفوي؟ لقد كان هذا التأمين مطلبا أساسيا من مطالب المعارضة ولعدة سنوات، لكن لم يتأت تحقيقه ولو جزئيا إلا عند تولي حكومة التناوب مهامها وعملت على تجسيد الفكرة على أرض الواقع. غير أن مناسبة وضع مشروع مدونة التأمين الصحي الإجباري شكل فرصة للمتربصين بالعمل التعاضدي (بمجانية تقديم الخدمات الصحية والعلاجات للمعوزين وذوي الدخل المحدود من المواطنين) ولإحكام السيطرة على الصندوق والتعاضديات وأقحمت المدونة الصندوق والتعاضديات في قانون التأمين الصحي الإجباري. كما هو معلوم فإن لكل مخطط خلفيات وأهداف ومستفيدون، ما هي ومن هم بالنسبة لما ذكرته؟ في الواقع هناك خلفية واحدة مشتركة ومتكاملة وتتمثل في: أولا، فيما لدى بعض العقليات على مستوى اتخاذ القرار والتي ترى أن المواطن المغربي إما أنه قاصر، وجاهل وليس له كل المؤهلات التي تسمح له بتدبير شؤونه السياسية والإقتصادية والاجتماعية، ولذلك نصبت نفسها وصيا عليه لتدبر شؤونه بشكل مباشر أو غير مباشر، وإما أن المواطنين الذين سمحت لهم أصوات منتخبيهم تدبير بعض المؤسسات، الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، يشكلون خطرا على مصالحهم في تلك المؤسسات وبالتالي وجب سلب كل الاختصاصات المخولة لهم ليصبح وجودهم فيها كعدم وجودهم. ثانيا هناك لوبيات تتستر وراء بعض ذوي النفوذ في مراكز القرار بالإدارات ذات الصلة وتعمل على ضرب النظام التعاضدي لفرض هيمنتها على كل ما له صلة بالقطاع الصحي من مستشفيات وصيدليات ومصحات ومراكز الفحص بالأشعة والمختبرات والتأمين، لتلعب فيه بمفردها دور المحتكر على حساب صحة المواطن متمتعا كان بالتغطية الصحية أو غير متمتع بها.. والأدلة على ذلك كثيرة ليس مكان بسطها، ولكن يظل مشروع مدونة التعاضد بعضا منها. من يتتبع النقاش حول الموضوع لا بد وأن يلتبس عليه الأمر لأن التعاضديات هي عبارة عن جمعيات يؤسسها المنخرطون ويوكلون تدبير انخراطاتهم لمسيرين منتخبين من طرفهم، فما دخل الحكومة إذن في الموضوع ؟ بالفعل، وقد كرس مشروع مدونة التعاضد هذا اللبس حين نص على ملاءمة التسمية «تعاضدية الاحتياط الاجتماعي»مع الأهداف التي ترمي إليها، وهو قيامها بأعمال الاحتياط الاجتماعي، ورفع الخلط بين التعاضديات والجمعيات، كما جاء في مذكرة التقديم. لكن في الواقع، من حيث تسمية أو عنوان المدونة «مدونة التعاضد» لا تختلف في شيء عن «قانون بمثابة النظام الأساسي للتعاضد» وهذا الاسم هو أقرب لواقع التعاضدية. ومن جهة ثانية فإن التعاضديات هي أصلا إطار للمنخرطين فيها من أجل غرض محدد هو التكافل لمواجهة المخاطر الصحية والأمراض ومواجهة نفقاتها عكس أعمال الاحتياط الاجتماعي وهو مفهوم أقرب للعمل الجمعوي منه للتعاضديات خاصة وأن تسيير دور العجزة والمسنين ودوي الحاجة هو من صميم اختصاص الجمعيات. كما أن نشاط التعاضدية هو بالفعل أقرب للجمعيات، وقد حسمت في ذلك مدونة التأمين الإجباري الأساسي عن المرض (المادتين 73 و 83 من القانون 65.00) حيث أطلقت اسم «الجمعية التعاضدية» على ما كان يطلق عليه «الشركة التعاضدية» ترجمه ل»Société Mutualiste «. أين يكمن تعارض أو ربما خرق مقتضيات هذا المشروع لمبادئ وقيم التعاضد المتعارف عليها دوليا؟ دون التمحيص في مقتضيات هذا المشروع للبحث فيها عن مبادئ وقيم التعاضد المتعارف عليها دوليا ، يمكن فقط ملاحظة مضامين البنود المتعلقة بالتعريف والغرض والتأسيس، وفيها يلاحظ وجود تراجع خطير بالمقارنة مع الظهير رقم 1-57-187. فبالنسبة لهذا الأخير الهدف من التعاضدية هو القيام لفائدة المنخرط وعائلته بالعمل الاحتياطي والتضامني لتغطية المخاطر. أما مشروع المدونة فنص على أن التعاضدية، بواسطة اشتراكات منخرطيها، تقوم لفائدتهم وذوي حقوقهم بعمل من أعمال الاحتياط، لتغطية بعض الأخطار، وكذا أعمال التضامن والقيام بعمليات الإسعاف وأعمال الوقاية ضد الأخطار المتعلقة بالمرض أو الولادة أو الحوادث وإحداث دور الراحة والإيواء وحماية الطفولة والأسرة والأشخاص المسنين والمحتاجين لمساعدة الغير. إلا المؤسسات التي تقدم خدمات العلاج والتشخيص وتوريد الآلات الطبية والترويض... ويتضح بذلك أن مشروع المدونة يرمي إلى إفراغ مفهوم العمل التعاضدي من هدفه الحقيقي الذي من أجله أحدثت التعاضديات قبل الاستقلال في العقد الرابع من القرن الماضي. فإذا كان أهم أهداف التعاضد هو التكافل بين المتعاضدين لمواجهة مصاريف ونفقات العلاج والاستشفاء التي لا يمكن لأي منهم بمفرده مواجهتها، وبالتالي ضمان تغطية صحية ووقائية من المخاطر بأقل تكلفة. لقد كان بديهيا أن تنشئ التعاضديات مؤسسات العلاج والاستشفاء والصيدليات التعاضدية وأبرمت الاتفاقات مع مقدمي العلاجات لتحقيق أهداف التعاضد. لقد منعت المادة 44 من القانون 65.00 وكذا المادة 2 من مشروع المدونة إنشاء هذه المرافق على التعاضديات؟ ذلك ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن هناك لوبيات وراء المشروع/ المخطط. وكذا تعارضه مع صلب العمل التعاضدي. فإذا منعت الدولة التعاضديات من إنشاء المؤسسات آنفة الذكر، ( البند 5 من المادة 2 والمادة 144 من المدونة) كما منعت المادة 44 من مدونة التأمين الأساسي الإجباري (65.00) المؤسستين المكلفتين بتدبير التأمين الإجباري (الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي)، فإن ذلك يقوض إسهام التعاضديات والصندوق الوطني في النشاط الصحي للدولة تماشيا مع السياسة الوطنية في مجال الصحة كما جاء في نفس المادتين. هناك تناقض بين مقتضيات البند 5 و 6 من المادة 2 من مشروع المدونة وبين البندين 1 و2 في المادة 44 من القانون 65.00. كما أن هذا المنع يتعارض، بل يضرب في الصميم فلسفة الضمان الصحي والحماية الاجتماعية التي يشدد صاحب الجلالة الملك محمد السادس على ترسيخها. وإسهام الصندوق والتعاضديات المتألف منها في النشاط الصحي للدولة لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال إحداثهما للمؤسسات الاستشفائية والتجهيزات الصحية ولو لم تتول تدبيرها بنفسها بالضرورة. كما أن إحداث دور العجزة والمسنين والحضانة لا يعتبر من قبيل الإسهام في النشاط الصحي للدولة بل في نشاطها الاجتماعي وهذا ليس من أهداف التعاضد. اعتبارك لمشروع مدونة التعاضد بمثابة حلقة ضمن مخطط تصفوي يؤشر على وجود قلق في أوساط العاملين في القطاع بشأن مستقبله، فكيف ستواجهون هذا المستقبل؟ بالتاكيد هناك قلق في أوساط التعاضديين، بل وأكثر من قلق. هناك تخوف حقيقي من الاجهاز على هذه الخدمة المرتبطة بصحة المواطن وحياته. واعتقد أن الوسيلة الأمثل للحفاظ عليها وترسيخها هو المواجهة والتصدي بكل الوسائل القانونية والديموقراطية لكل ما يهدد مستقبل هذا القطاع. وقد عبرنا لوزارة التشغيل عن تحفظاتنا حول هذا المشروع، واقترحنا مشروع قانون يقوي الجوانب الايجابية في ظهير 1963 ويسد ثغرات الجوانب السلبية. ونتمنى أن تتدارك الوضع وتعي خطورة ما طرحته وتتراجع عنه، وأن تنصت للفاعلين في القطاع وتمنحهم الفرصة لانتاج نص قانوني يجيب عن انتظارات المنخرطين ويكون في مستوى العناية التي يوليها صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله لموضوع الحماية الاجتماعية، وحرص جلالته الدائم على دعم وتنمية التضامن بين فئات المجتمع وتوفير التغطية الاجتماعية لهم. وكذا تأكيده في كل المناسبات على توجيه الجهود إلى تطوير أنظمة الحماية الاجتماعية ببلادنا وإلى تأهيل الهيئات المكلفة بتدبير تلك الأنظمة وتحسين مستوى الخدمات التي تقدمها حتى تكون في مستوى انتظارات المنخرطين.