أصدرت وزارة الثقافة في المغرب، الديوان الشعري الجديد للشاعر المغربي الشاب عبد الدين حمروش: «كفوهة بندقية»، وهو الديوان الثالث في مسيرة هذا الشاعر الشاب وصاحب الصوت الشعري المتمّيز بعد ديوانه «وردة النار» الذي استحق عنه في سنة 1992 جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب، وديوانه «فقط» ، وهو من إصدارات اتحاد كتاب المغرب سنة 2001، وقد جاء هذا الديوان في حوالي 70 صفحة من الحجم المتوسط ويضم بين دفتيه 26 قصيدة تحمل العناوين التالية: حجر، على مائدة الصباح مشاهد صامتة، في الجريدة، على إيقاع طبول، يوميات، قيامة، تسوية، أصفر فان غوغ، إعدام، النقطة، عناوين صحفية، الحائط، التباس، رصاص، الطائر، الريح، ثأر، الكلمة، طفولة، تلك الشجرة، ولادة، صفقات خاسرة، صور، سهران، كفوهة بندقية، قلب الأسد. أما الغلاف فمن تصميم الشاعر والتشكيلي المغربي عزيز أزغاي. ينهل هذا الشاعر الشاب من قاموس اليومي الذي لا يهادن ولا يعرف الفرح إلا نادراً، وإن عرفه فهو يعرفه أو يتذوقه مزيّفاً قصير النفس محدود العمر، فرح لحظوي كاذب، ينجلي بسرعة فاراً من قبضة الشاعر وتاركاً إياه محدقاً في الفراغ الشاسع، فكيف لا وهو من عشاق ورواد قصيدة النثر التي تميل إلى الاغتراف من اليومي ولغاته وخطاباته، فضلاً عن كونه واحداً ممن ينحون باللغة الشعرية صوب الانعتاق من سلطة الفصحى والغموض والمجاز. ف «اليومي» يفتح أشرعته في قلب الشاعر ويترك أبلغ الأثر في نصوصه الشعرية، حيث تجد عبر القصائد مواويل اليومي وأسئلة الناس المرعبة والقلقة، وكأن الشاعر يكتب القصة القصيرة أو الرواية. وهي طيور سوداء لا تحدّق في السماوات الفسيحة والأجواء الهادئة أو الحدائق التي تخترقها جداول المياه الصافية، نصوص مغايرة وصادمة تعكس صراع الذات مع الآخر بكل تجلياته وتموجاته: الآخر الأنا، الآخر المجتمع، الآخر الند، الآخر الشبح، الآخر الفكرة، الآخر العدو، الآخر الصديق. «الرجل يتصفح أخبار السياسة. الزوجة تتعقب أخبار الحوادث. الابن يتتبع أخبار البطولة الوطنية. البنت تستقصي أخبار الموضة والفن. الخادمة بأخبار المال والأعمال، تمسح زجاج النوافذ. *** الكلب ينبح. القطة تموء. السباق يرفع سرعته. الطنجرة تعلي صفيرها. الباعة يتنادون بسلعاتهم. الطفلة تتهجى آخر أحرفها. الضربات تحتج على طول انتظار». نحن إذن أمام معمار شعري ينهل من اليومي القاتل الذي يصبح الذات والموضوع في النص الشعري، ومن قسوة الحياة. هذه الحياة التي لولا سوداويتها المفرطة لما جعلت هذا الشاعر يكتب هكذا قصائد لا تعرف الليونة ولا تتضح من مكان الفرح والعوالم الوردية، وإنما يفتح نوافذها على الأفق المجهول. قصائد عبد الدين حمروش تتميز ببساطة لغتها، هذه البساطة التي يبدع بها الشاعر نصوصه ويكثف فيها آلامه وآلام الأصدقاء وناس الهامش، مستوضحاً آفاق القصيدة في ضوء تحولات اللغة والخطاب، فهذا الشاعر لا يستعمل اللغة الفضفاضة أو التعابير الوردية المزيفة أو ما يتفرع عنها من كلمات وتزاويق نصيّة يجامل بها الشاعر كمتلقي نصه. عبد الدين حمروش يأخذنا إلى حيث الألم الحقيقي الذي يصقل الذات ويستنطق مجاهلها ولذلك فهو يراهن على الذات بوصفها مرجعاً لاستلهام التجربة الفعلية، وحيث القصيدة المشرعة على ما في كياننا من آلام وحروب وتشظي الذات والعبث واللاجدوى والقصيدة هنا معبر لاجتياز حافة الألم (هاته)، وهي الملاذ للخروج من عنق الزجاجة. نلمس هنا بكل عبثية وسوداوية في قصيدة «يوميات» التي يقول فيها عبد الدين حمروش: «أستفيق على صراخ رضيع،/ يستوفي حصة من جنونه باكراً/ أفطر على بكاء شقيقة،/ ترفض حمل/ ألوانها وأصابعها إلى المدرسة./ أعبر الشارع على ضجة أطفال،/ لا تترك فرصة للهروب في وجه قطة./ أستقل الحافلة على توسلات كسيح،/ يطوع جسداً على استعراض عاهات./ أدخل الفصل على مواجهة تلاميذ،/ يشهرون أكفهم كالأسنة في وجهي./ أتغذى على مشاهد حرب،/ يأتي رصاصها غزيراً من التلفاز./ أقيل على تقريع زوجة،/ يحتد لمجرد التفاتة في غير حساب./ أتأمل حالي عند بحر،/ كلما أشرفت عليه أودعني وعيداً./ أتعشى على جلبة قطار،/ لقوتها تتهاوى أفكاري من أعلى طابق./ أنام على شخير امرأة،/ تغزو حشراته ما ربيت من أحلام». في نصه «مدو كطلقة في صمت ليل»، يقول الشاعر: «محتج، كريح خلف نوافذ مغلقة. مر، كانتصار عاد هزيمة. شامخ، كعرف ديك. وفي، كدوري يداوم فوق عمود. مطمئن، كبيض تحضنه دجاجة. ممض، كحفل استقبال رسمي. مضيء، كفراش توقده امرأة. هش، كموزة تداولتها أيد. مخاطر، كقشة تغفو لدى موقد. شقي، كبريء تدينه صدف. صعب، كركوب جبل. صاخب، كانطلاق سيارة إسعاف. متمنع، كإجاصة لم تطلها كف. مندهش، كبركة تذرو سطحها ريح. كتوم، كثمرة بداخلها دود». نلمس في هذا المقطع حلة التشظي التي يستشعرها الشاعر عميقاً في أقاصي الذات ومفازاتها البعيدة. أما في نصه «عدواني كأصبع يشير باتهام» حيث يقول الشاعر: «مدبر، كطعنة من خلف. عكر، كحليب ببعض قهوة. دليل، كماء إلى جذور. خطر، كحقل مزروع بألغام. مهين، كبلور بقعته أصابع. مستبد، كوجه واحد في صور عدة. صلب، كإرادة امرأة عاشقة. نادر، كصمت بين أطفال. رهيب، كوداع إلى جبهة». فالشاعر هنا، على الرغم من القسوة، يعمل عبد الدين حمروش على تأسيس أفقه الشعري بسردية مختزلة تكثف الآلام الإنسانية وتقترب من الإنسان المهمش والمغلوب على أمره، هذا الإنسان الذي تأكله المدن الإسمنتية حيث يعلن الشاعر عن فداحة الأمر في «صفقات خاسرة» حيث يقول: «يبيع حبيبة ترعى له ريح فراش،/ يشتري امرأة عابرة في محطة أولى عابرة./ يبيع بيتاً تظلله شجرة سرو،/ يشتري وطناً من حدقة بندقية يطل./ يبيع سكينة بها تطمئن نفس،/ يشتري شتائم ترتفع بها عقيرة جارة./ يبيع صديقاً يفتح له قلباً وبيتاً،/ يشتري أعداء يكمنون في كل منعطف وشارع./ يبيع طفولة في انطلاقها تمضي،/ يشتري يوميات رجل يقضي مضرباً عن حب./ يبيع نجمة تضوي ردهات روح،/ يشتري ليلاً أجوف إلا من نباح متقطع./ يبيع وردة ترتسم في فم بسمة،/ يشتري كآبات كالغيوم تفيض من عينين./ يبيع ذكرى حب جميلة،/ يشتري حاضراً بتكلفة زوجة وطفل كل عام./ يبيع دملجاً لم يفارق معصم أم،/ يشتري بكفالة سراحاً مؤقتاً من سجن./ يبيع تاريخ هوى شخصي،/ يشتري ذاكرة بالنار والحديد محفورة./ يبيع أحلاماً كالطيور تتهادى،/ يشتري كوابيس من جنباتها تستفيق دبابيس./ يبيع المتنبي والسياب،/ يشتري شعراء تضيق بهم صفحات «نت» وجرائد./ يبيع فكرة تتفتح في خيال،/ يشتري وردة في كأس أريد أن تقضي./ يبيع طفلاً يقيم بين ضلوع،/ يشتري صبية تزدحم بهم جدران بيت». إننا ونحن نقرأ ديوان «كفوهة بندقية» نحس أننا أمام نصوص تحسسنا بهول الدمار الذي حل بروح الإنسان في لحظته الآنية، يحسسنا حمروش بذواتنا المنكسرة في مرآة كاذبة شاعر أحسسنا معه بعبث الحياة في ظل المآزق التي تمر منها الذات وهي تحترق تحت نار العذاب اليومي. من خلال نصوصه نستشعر الواقع في تجليه الصادق برؤية صوفية ونفس وجداني يبعث على الألم والحرقة والأسى لما صارت عليه القيم الإنسانية اليوم في ظل تهافت اليومي والمادي... المادي القاتل بامتياز.