من التعليم الوطني الحر بالقنيطرة (مسقط الرأس 1938)، إلى جامعات القاهرة والرباط والجزائر وباريس، أرسى الدكتور إبراهيم السولامي مسارات متنوعة للتكوين الأكاديمي، وللبحث والكتابة. في سنة 1964، التحق أستاذا بكلية آداب فاس، ضمن جيل الأساتذة الشباب: أحمد اليبوري، حسن المنيعي، محمد برادة ومحمد السرغيني، لتتخرج على يديه أفواج الطلاب الذين يشهدون بسعة علمه، وروحه الكريمة المفتوحة على الشباب. إلى جانب ذلك، أثرى الخزانة الوطنية بمؤلفات دشنها بديوان «حب» سنة 1967، وواصلها بكتابيه الأساسيين: الشعر الوطني في عهد الحماية (1974) والاغتراب في الشعر العربي الحديث (2009)، إضافة إلى مؤلفاته: تأملات في الأدب المعاصر، رأي غير مألوف، خطوات في الرمال، وكتابه الصادر هذه السنة بعنوان «في صحبة الأحباب». في هذا الحوار استعادة لمعالم من هذه المسارات التي هي جزء من ذاكراتنا الثقافية المشتركة. التحاقك بالتدريس ( ثانوية التقدم بالقنيطرة، 1962)، لم يثنك عن مواصلة الدراسة الجامعية؟ لم تمر إلا سنة واحدة على عودتي من باريس، حتى فتحت جامعة محمد الخامس باب شهادة استكمال الدروس في وجه المجازين لولوج أقسام الدراسات العليا. اخترت شهادة الأدب المقارن (عربي فرنسي)، التي كان يدرسها الأستاذ اللامع أمجد الطرابلسي، والأستاذ حسن ظاظا. كان الأول يدرسنا «رسالة الغفران» للمعري و»الكوميديا الإلهية» لدانتي، وكان الثاني يدرسنا الآداب السامية المقارنة، و خاصة الفارسية والعبرية. كنا تسع طلاب أذكر منهم اثنين: محمد العمري، وقد أحرز على الإجازة من جامعة دمشق، وكان يدير مدرسة بالبيضاء في ملك والده، وهو أحد الثلاثة الذين ألفوا كتابا في مقرر الفلسفة لتلاميذ البكالوريا، رفقة أحمد السطاتي ومحمد عابد الجابري. وقد كان لهذا الكتاب تأثير بالغ شجع كثيرا من التلاميذ على الالتحاق بشعبة الفلسفة. أما الثاني فكان هو عبد الحق المريني مدير التشريفات الملكية. بعد سنة على نجاحنا في شهادة استكمال الدروس، أعلنت الكلية عن مباراة الأساتذة المساعدين للالتحاق بالتعليم العالي، واشترطت أن يكونوا حائزين على الإجازة وشهادة أخرى بعدها. وبذلك انتقلنا، نحن الناجحين في المباراة، إلى عالم زاخر سيكون نافذة سرعان ما اتسعت لنطل منها على قضايا في الفكر والأدب، كما في السياسة والنضال النقابي. كنا ستة :أحمد اليبوري، محمد برادة، محمد السرغيني، حسن المنيعي، أحمد المجاطي، والسولامي. سبق لي في سياق محاورة أستاذنا الجليل أحمد اليبوري في مقام سابق، أن تحدثنا عن هذه المجموعة الشابة كنفس جديد أثرى الجامعة المغربية. من جهتك، كيف ترسم لنا ملامح المشهد الجامعي في منتصف الستينيات من جهة تجديد الدراسات، وتفاعلات الثقافة والسياسة آنذاك؟ عند التحاقنا بكلية الآداب (1964)، كنا شبابا تتراوح أعمارنا بين الرابعة والعشرين والسابعة والعشرين. وكان بعض الطلبة أكبر سنا من أساتذتهم، لأنهم أحرزوا الباكلوريا أحرارا، بعضهم كان موظفا أو معلما، وكان منهم الأب صاحب الأبناء. في هذه الفترة، صاحبنا أحداثا خاصة دارت رحاها في فضاء الجامعة. وإذا كنا قد حاولنا إفادة الدرس الجامعي بتصور جديد منفتح على الثقافة الغربية فكرا ومنهجا، فقد استفدنا من طلبة شباب متحمسين مجتهدين لم يسلم بعضهم من المساءلة والاعتقال. كان الجو السائد هو الصدى الأمين للتصور الحداثي للثقافة بغية التحرر من التقليد المعيب والتحجر الجامد. كنا أساتذة وافدين من دراسات تلقيناها في جامعات مصر، وسوريا، والعراق، وفي جامعات أوربية، خاصة الفرنسية منها. كما كانت كلية الأدب بفاس ملتقى لمئات الطلبة الوافدين من وجدة وتازة والحسيمة وتطوان ومكناس ومراكش وأكادير، لأن أغلب الجامعات لم تكن قد أسست بعد. لذلك تجد أغلب الكتاب الذين لمعوا في الصحافة والتأليف كانوا طلبة بهذه الكلية منهم: أحمد مفدي ، نجيب العوفي، ، محمد عز الدين التازي، أحمد المديني، محمد بنيس ، عبد الصمد بلكبير، محمد الولي، رشيد بنحدو، عبدالقادر الفاسي الفهري، محمد أنقار، أحمد الميموني، محمد عنيبة الحمري، إدريس الملياني وفاطمة الزهراء أزريول... كانت الدراسة منفتحة على القضايا والمناهج الحديثة. من التزام المذهب الوجودي ، إلى الواقعية الاشتراكية، ثم إلى المنهج البنيوي والدراسات السيميائية. وقد واكب هذا التفتح الحداثي والغني ما كنا نطالعه من كتابات يجدها القارئ في ما كتبه برادة من قصص جمعها في كتابه»سلخ الجلد»، وما كتبه عباس الجراري وقد ظهر في كتابه « الأدب والحرية» و»الثقافة في معركة التغيير»، وما أصدره أحمد المجاطي من أشعار، والسرغيني من أفكار، واليبوري من نقد، والمنيعي من ترجمات، وما ترجمته بدوري من كتابات عن سارتر، وشولوخوف، وناظم حكمت وكافكا. كان الشعور الوطني متمكنا منا، لذلك توجهنا في إعداد رسائلنا الجامعية إلى التراث المغربي، فبحث اليبوري في قصص المغرب، والمنيعي في المسرح المغربي، وبحثت بدوري في الشعر الوطني المغربي في عهد الحماية. أمام التيار المتفتح على الآداب العالمية و ومناهجها، الذي أشاعه الأساتذة المتخرجون من مختلف الجامعات الغربية والشرقية، والذي نماه وغذاه ما كان أساتذة شعبة الفلسفة يلقونه من دروس حول تاريخ الفكر الإنساني والتغيرات المجتمعية، والتحولات التاريخية، وهو تيار تردد صداه الإيجابي في الوسط الطلابي، استحدثت شعبة الدراسات الإسلامية لفتح آفاق أخرى موازية، ولتحديث مناهج تخرج الدرس القديم المتبع في التعليم العتيق إلى التعرف على العلوم الحديثة من جغرافية ولغات. بإحداث هذه الشعبة تعرفنا على أساتذة فضلاء كانوا أصحاب أسماء وازنة. لكنني لاحظت، بعد مدة قصيرة، أن سيلا من الكتب يصل من الشرق العربي، ويوزع بالمجان، وفي مجلدات أنيقة، يربو عدد بعضها على العشرين مثل مؤلفات ابن تيمية.