في هذه الحلقات ، تركيب لمشاهدات ومرويات توفرت لدي إثر زيارات قمت بها، في مناسبات ثقافية مختلفة، لسوريا التي توصف عادة بأقدم بلاد مأهولة في التاريخ. فقد عبرتها، منذ تكوينها الأول، ديانات وحضارات وحروب أهدتنا عراقة المعمار وأصالة الغناء والشعر والجمال. وعلى ثراها العاطر، يرقد عدد من الصحابة والأدباء والمتصوفة والعلماء، بدءا من خالد بن الوليد الذي زرناه بالمسجد الذي يحمل اسمه بحمص، وأبوالعلاء المعري وعمر بن عبد العزيز بمعرة النعمان في الطريق إلى حلب، وصلاح الدين الأيوبي ومحيي الدين بن عربي بدمشق ، وصولا إلى الجنود المغاربة الذين استشهدوا في حرب أكتوبر 1973، وإلى المبدعين الذين أضاؤوا قراءاتنا دائما: محمد الماغوط، سعدالله ونوس ونزار قباني الذي أسلم الروح بلندن، موصيا بأن يدفن بدمشق التي كان «لا يستطيع أن يكتب عنها دون أن يعرش الياسمين على أصابعه». وبالنسبة إلي فقد منحتني هذه البلاد، من خلال زياراتي، صداقات وأمكنة، ومحكيا قريبا إلي عن اللقاء المؤجل بهوى شرقي اسمه «أنهار». دمشق في النهار سيدة شرقية محافظة، وفي الليل لاعبة «ستربتيز» بامتياز. ولذلك اقترح صاحبي، في الليلة الأولى بعد عودتنا من حلب، أن نختبر الوجه الخفي لدمشق بالنزول إلى «الأعالي». في دمشق عشرات الملاهي التي تضيئ ليل العاصمة بالرغبات والقناديل والعطر. وبحسب صديقنا السوري، فقد تم تشجيع تنامي هذا النوع من النشاط الليلي لتدعيم السياحة العربية، خاصة بعد خفوت دور بيروت إثر تفاعلات التوتير والتهدئة، والعدوان على لبنان صيف 2006 بشكل خاص. وبعد بروز العاصمة الأردنية، إثر ذلك، كمكان بديل للسياح العرب. ولذلك شجعت عمليات استيراد «الفنانات» من دول روسيا وأوكرانيا وبولونيا والعراق والمغرب، ما دام السوق المحلي لا يفي بالغرض. كان الملهى الأول بشارع الحمراء خطونا الأول. في الباب حراس شداد غلاظ كما في كل ملاهي العالم. في الداخل قاعة فسيحة بطاولات يتوزع عليها زبناء خليجيون وسوريون، برفقة حسناوات لا ينتظرن الإشارة من أحد. إنهن يعرضن خدماتهن بكل لغات العالم. المحل يقيس زمن الرفقة بأثمنة مختلفة تراعي نوعية التنشيط ومفعوله ومساحة الوقت. أثمنة لنصف الساعة، أو للساعة، أو لأربع ساعات، أو إلى آخر امتدادات السهر. على الطاولة القريبة منا، زبون يريد أن يذهب بالرفقة إلى أبعد مدى، لكن الغانية الأوكرانية تخبره بأن قوانين الملهى لا تسمح لها سوى بجلسة المتعة داخل الملهى، أما إذا أراد ما أراد، فما عليه إلا أن يتصل هاتفيا أو شخصيا بمقر الوكالة، بالشارع المركزي لتنظيم الحفل الخاص. الغواني ملتزمات بنظام صارم، والوكالة كما أخبرنا بذلك أحد النادلين، هي التي تنظم العقود، وتتولى مهمة رعاية الحفلات الخصوصية . سألنا النادل عن سبب ندرة الزبناء اليوم، فقال إن مرد ذلك غياب «المنشطات» المغربيات اللواتي لهن خبرة احترافية في التنشيط، وقد قل عددهم هذه الأيام بسبب المشاكل التي أثيرت، إثر نشوب نزاعات بين شبكة التهجير والفتيات. في زمن إقامتي هناك، كانت مشاكل عديدة قد تفجرت إثر شكاوى تقدمت بها فتيات مغربيات وقعن في مصائد لا تحصى، وصل بعضها إلى المحاكم المغربية. وحسب بعض المصادر الإعلامية فقد عملت السلطات السورية، لتفادي المزيد من المشاكل، على استصدار مذكرات تضبط حركة وصول المغربيات إلى سوريا، وتقر معايير دقيقة من بينها أن تتوفر الراغبة في دخول الديار السورية على مبرر معقول للسياحة، أو لزيارة الأهل، أو للعمل المشروع. في جولة «الأعالي» هاته، انتقلنا إلى ملهى ثان. نفس الطقس والغواية. ولذلك غيرنا الاتجاه نحو فندق مجاور، وهناك وجدنا بنات جلدتنا اللواتي تعرفن علينا بسهولة، وأبدين فرحا بلقاء أولاد البلاد. تذكرت نازك، لكننا وجدت نسرين التي كانت برفقة خليجي فك عقاله واستسلم للرقص. تركت نسرين الطاولة، واقتربت منا لتسأل عن البلاد. ثم فجأة بدت محرجة بعد أن انتبه إليه المتعهد السوري. تقول نسرين: -إننا تحت الحراسة المنظمة، والمشغل هو من يراقب الزبناء، وينظم حركات السير. نسرين التي تبدو سعيدة باختيارها، تعي أنها تلعب اللعبة لإعالة أسرتها في المغرب، فقد هيأت لها الشبكة أوراق الإقامة بدرجة فنانة، وهي تقيم مع سبعة فتيات مغربيات، تتلقى المقابل بالعملة الصعبة. ولا تجد أدنى حرج في الأمر. بل إنها تعتز بالدور الترفيهي للمغربيات اللواتي ينافسن فتيات أوربا الشرقية. سألتها عن نازك، فقالت إنها علمت بوصولها، وقد جاءت إلى دمشق بدون عقدة، لكنها ستعمل تحت المراقبة لمدة ثلاث أشهر، ثم توقع العقدة وتصبح بوضع قانوني يفي بالشروط المطلوبة. سألتها عن الشروط، لكن المتعهد يغضب ويطلب منها أن تعود إلى الزبون الخليجي. في الملهى الثالث، توترت «كارولينا» بعنف وقلبت الطاولة حين خاطبها الزبون بصفة عاهرة، فأجابت: - أنا فنانة رقص شرقي، هل تفهم معنى فنانة؟ هناك إذن خلل في مكان ما، سواء في رغبات الزبون، أو في حركات كارولينا، أو في النظام العام للاستيراد والتنشيط. في الليل الثاني، سهرنا بمطعم شرقي رفيع بباب توما بالمدينة القديمة. كان اسمه «النارنج»، أو ما يشبهه. فرصة أرقى لسهر العائلات والدبلوماسيين والفنانين والعشاق. وعلى الطاولة، تجاذب الأصدقاء أطراف الحديث عن السياسة السورية الآن. رأي ينتصر لهذه السياسة باعتبارها ترسم انفتاحا نسبيا على القوى الحية للمجتمع، وتواصل، على المستوى الإقليمي والدولي، دعم المقاومات وموقف الممانعة في وجه المخطط الأمريكي والصهيوني. ورأي لا يزال يشدد على انغلاق بنية السياسة، وعلى الحاجة إلى جهد مضاعف لإطلاق مزيد من الحقوق والحريات، ولإقرار مبدإ التعدد السياسي والإعلامي. وتداعت الأفكار في سمر دمشق. لا يزال الزبناء يتوافدون على «النارنج»، ضمنهم وزير الخارجية السوري، مرفوقا بضيفه الأمين العام للجامعة العربية الذي حضر إلى سوريا لافتتاح مؤتمر وزراء الثقافة العرب. دخلا بهدوء رفقة المعاونين، واستقرا في زاوية هادئة من المطعم. يدخل، في وقت لاحق، جورج وسوف مصحوبا بأصدقاء وحراس شخصيين، ويستقر هو الآخر في زاوية مختلفة بلا صخب، تحت النظر المشدود للزبناء. في الساعة الثالثة صباحا، كنا على الأرصفة نتنسم هواء الشرق. وفي الممر المقابل، شباب يدعون العابرين، من داخل سياراتهم، إلى حفلات خاصة بإغراء السفر اللامحدود إلى الأعالي. ا