اختتم قبل أيام برواق باب الكبير بالأوداية بالرباط معرض الفنان التشكيلي العراقي محمد قريشي المقيم في هولندا، وقد ضم المعرض مجموعة من اللوحات الصباغية التجريدية تجمعها فكرة الاشتغال على الأرض كتيمة تعبيرية وكسؤال بيئي لازم الفنان طويلا منذ مغادرته وطنه، إذ يسعى إلى إبرازالجوانب الجمالية لمجموعة من الآثار والبقايا الناتجة عن عوامل التعرية والحرائق والدمار والاعتداء على الطبيعة والمكان.. هذه اللوحات تنقسم عموما إلى قديمة موسومة بصباغة حركية وغنائية Lyrique مدعومة بإلصاقات ورقية ونسيجية ألياف، حبال، خيش..) وأخرى جديدة يمكن اعتبارها تكبيرا لتفصيلات Détails مأخوذة عن الأولى بطريقة توحي بالتصوير المجهري، ذلك أنها تظهر أكثر جزئية وعلنية..وذات تفاصيل.. في عمقها تُعلن الآثار عن جنسيتها، حبيبات، حصى وأتربة متجمعة، تكوّمات رملية وصلصالية بنية ورمادية، مساحيق نباتية محترقة وأحجار مدكوكة، نشارة حديد وخشب..إلخ. في عمقها أيضا تبرز قطع صدئة..متآكلة تؤرخ لذاكرة ماضوية معينة..لتاريخ ما، فضلا عن أشياء أخرى يقوم الفنان بتغريتها داخل جسد اللوحة بشكل مندمج يساهم في صناعة المعنى والمبنى.. على منوال هذا المنحى الأركيولوجي، يصوغ الفنان قريشي لوحاته إلى جانب إكسائها بتخطيطات غرافيكية مبهمة سريعة التنفيذ ترافقها شخبطات وخربشات وكشط ودعك Grattage فوق صباغة متعجّنة ومتراكمة تغطي فضاء السند. لوحات الفنان المقترحة لهذا المعرض سطوح خشنة مسلوخة ومجرّدة من نعومتها وذات ألوان وروائح ترابية ترسم أصل الأشياء يخترقها بين الحين والآخر أزرق نيلي يشغل مساحات حرة متطايرة، غير مؤطرة، مستوحاة من وهد الصحراء ومن جغرافيتها ومسالكها الواسعة والممتدة.. لوحات ذات هوية جغرافية ملأى ببقع وجلطات لونية متكوّمة حول نفسها تشي بالعراقة والقِدم..وطنها الأرض..الأرض الصارخة ضد كل أشكال الاعتداء والحرق والإبادة والتدمير والتفجير..وضد غضب الطبيعة أيضا.. وبقدر ما هي لوحات، هي كذلك مرائي أثرية وحفريات يبصم فيها وعليها الفنان ألوانه ويقشّر مواده ويخلدها دون أن يفقدها وحشيتها وفطريتها. إنها حيوية تجريدية حداثية تمتح بعضا من ملامحها من اللاند آرت (فن الأرض) وفن البيئة والتصحر. دليل ذلك أنها - اللوحات تبرز مكسوة بتشكيلات لونية ناتئة متغايرة ذات أزمنة متباينة متعاقبة على إيقاع تجاعيد وتضاريس بارزة حصيلة استخدام مواد مختلطة وعينات متقاربة مغراة تنبت وتتبادل المواقع داخل جنبات اللوحة.. ولضرورات جمالية وتعبيرية تخدم البناء والتكوين، يلجأ الفنان قريشي إلى تعضيد المواد فوق السند وتكسيرها برشمات Estampes وخدوشات متشابهة كثيرا ما تخضع لسلطة المحو وطفاوة الألوان وتفجّرها رغم صلابتها وغلاظتها وتكوينها العجيني المقدَّر.. الفنان محمد قريشي، الذي جالسته مؤخرا بالرباط، واحد من التشكيليين العراقيين المعاصرين المتميّزين وفي رصيده العديد من المعارض الفنية التي أقامها بمدن وعواصم أروبية وأسيوية مهمة، فضلا عن تكوينه الفني بالأكاديمية الملكية للفنون بهولندا وقبل ذلك ببغداد، وهو يمتلك مشروعا جماليا عميقا آمن به طويلا ويعكس طموحه كإنسان وكفنان.