ربما لا يعلم ابن بطوطة المسجى داخل غرفة صغيرة منسية في أزقة القصباء في المدينة القديمة بطنجة، أن العالم بات يسجد عند قدمي قرية صغيرة في الشمال المغربي كل صيف. بلدة صغيرة على المحيط الأطلسي، اسمها أصيلة، باتت تختصر العالم الذي فتن به الفتى الطنجي مبكرا حتى صار أشهر رحالة العرب ومستكشفيهم. أفكر بذلك وأنا أتبع فتيان المدينة القديمة إلى الضريح في ظهيرة مسروقة من وقتي العابر على مهرجان أصيلة هذا العام. لكنى أطرد سريعا فكرة أن لا حاجة للترحال، بينما العالم يرتحل إلينا. فها أنذا آتي من أطراف صحراء العرب في الخليج، إلى أطراف المحيط، فقط لأكون جزءا من تفاصيل محيط أصيلة، التي تحولت إلى قبلة لمثقفي وفناني العالم. هذا العام اختارت أصيلة أن تكون دولة الإمارات هي ضيف الشرف للمهرجان، فكانت فرصة لهذا البلد الموصوف بثرائه البترولي، أن يكشف عن الوجه الآخر من إنسانيته، ثقافته، فنونه، تراثه، آدابه وموسيقاه وأحلام ناسه عن المستقبل. لقد أسعدتني جدا هذه المدينة الصغيرة التي تفتح صدرها للمحيط دون خوف، مثلما تفتح قلبها للغرباء دون تردد أيضا. أسعدتني لأنها أعطت فناني الإمارات مساحة بيضاء على جدرانها، ليعبروا عن هواجسهم. تتبعت ضربات فرشهم عن كثب، وتركت لهم حرية أن ينقشوا ما شاءوا عليها، تماما كما تستسلم عروس في ليلة حنتها لناقشات الحناء ... كانت أصيلة بذلك تترك للجميع بتعدد توجهاتهم ومدارسهم الفنية والفكرية، أن يقولوا للعالم أن الاسمنت الذي يطوق مدننا لم يتمكن من سلب أرواحنا. هناك جروح وتقرحات على أصابعنا، ونحن نكتب ونرسم ونغني ونرقص ونحلم في هذا الفضاء الاصطناعي... لقد كانت مساحة من البوح فتحتها أصيلة لغرباء ليعيدو اكتشاف أنفسهم في مرآة محيطها... كم كان مقلقا في البداية أن نفكر كيف ستقدم الإمارات نفسها في مثل هذا المهرجان النوعي. لكن، بالاقتراب من الواقع الثقافي في الإمارات، كان لابد من تقديم نموذج لما يحدث داخل هذا القطاع المتجدد، خاصة أن التوجه الرسمي بات يدعم المشاريع الثقافية باعتبارها بناء للإنسان وبديلا استثماريا للمستقبل. فشكرا لأصيلة لأنها منحتنا الكثير في هذا المحفل، ويكفي أنها جعلتنا نتوقف عند ذواتنا لنتأملها... (٭) كاتبة من الإمارات