يُعتبر التفكير في الإسلام اليوم ضرورة من الضروريات التي تكتسي طابعا استعجاليا اليوم بالنسبة للمسلمين أنفسهم، وبالنسبة لغير المسلمين أيضا. ومع ذلك، فإنّ إعمال هذا التفكير هو ورش كبير وصعب يبقى، رغم كلّ الإيجابيات الكبيرة التي تحقّقتْ، مفتوحا على مصراعيه لإنجازه. إنّ التفكير بالنسبة لي معناه فهم دلالات الدّرس الذي تحمله هذه الديانة، ومعناه أيضا الوعْي بأسسه، بعيدا عن كلَ ما يكتسي طابع القداسة. إنَ الفهم، المقصود هنا، يقوم على إلقاء الضوء على مختلف التشريعات التي جاء بها النّص القرآني. ومن ثمّ، فإنّ النصوص التي تتكوّن منها هذه السلسلة من الحلقات تساهم بكل تواضع ضمن هذا الطموح. وهي تسعى إلى تسليط الضوء على الجذور العميقة والاجتماعية، والتاريخية العميقة إذن، لمثل هذه التشريعات. وهي تنطلق من قناعة مفادها أنّ سرّ تلك التشريعات يكمن في تاريخ البشر، الأمر الذي لا يمسّ في شيء محتواها القدسي. إنّ المسلمين اليوم مهتمون أكثر، في سياق مغامرة الحداثة، بمعرفة بأسس ديانتهم الخاصّة من خلال إنجاز قراءة عقلانية. وقد آثرتُ أنْ أتناول بالتحليل مظاهر محددة من الممارسات الدينية، ولم أقُم بشيء آخر سوى إنجاز قراءة أخرى للحجم الهائل من المعطيات التي أوردها المفسّرون العرب والمسلمون قديما. وأعتقد أن رفع المظهر الأسطوري والخرافي، بمعنى التمييز ما بين الحدث الأسطوري والحدث التاريخي، تمرّ من هنا. وقد فضّلتُ أن أتناول بالتحليل مظاهر حاضرة بقوّة في الحياة اليومية للإنسان المسلم، والتي تبدأ من شعائر الصلاة إلى السلطة، وإلى مختلف الوقائع الاجتماعية. إنها عناصر تنطوي على أهمية قصوى تهمّ وتشغل بال المؤمن وغير المؤمن. كلمة تنطوي على معنى الزندقة يتعلق الأمر في الواقع بالسلطة والسلطان. فالعشق لا يزعج فقط من جانبه الإيروتيكي، أو حتى الإباحي، كما يريد أن يقنعنا بذلك رجل الدين، بل إنه يزعج أكثر بسبب العصيان التام الذي يعلن عنه، وبسبب ذلك الولاء لإله آخر غير الله، والذي يصل إلى حدّ عدم الاعتراف بأيّة سلطة أخرى غير سلطة الشخص المحبوب. إنها زندقة بمعنى من المعاني التي تفسّر بأن رجل الدين يحرّك شبح قوّة غامضة تلوح وتتراءى خلف الشخص المحبوب، وتذكّر بالآلهة القدامى. ومن ثمّ، فإنّ فقدان الوعي من طرف العاشق بالمحيط الدائر به، كما تدلّ على ذلك حالة مجنون ليلى الذي لا يفكّر في شيء آخر سواها، يمسّ في الحقيقة بسلطان السلطة. فالعلاقة التي يبنيها العشق هي علاقة أُفُقية تخترق العلاقة العمودية السائدة في التراتبية الهرمية التي أسسها الإسلام. يتعلق الأمر، في هذه العلاقة، بشيء يشبه وضع الأرض الحرّة المتمرّدة والتي تتجاهل في الوقت ذاته وبصفة جذرية السلطة العليا. في التعاليم القرآنية نجد أن الله هو الذي له وحدة امتياز الخضوع، وكل سلطة أخرى لا يمكنها أن تمارس إلا بتفويض منه وتحت إشرافه. بل يمتدّ الأمر إلى طقوس الصلاة التي تمّ تنظيمها في تفاصيلها تجنّبا لأيّ طاعة وامتثال لغير الله. فالعاشق، بطريقته، يعتبر «سائبة» لا تميل سوى لمعشوقها. أما الرغبة الجنسية، فلها فضاءات تمّ تخصيصها من أجل تقنينها في إطار علاقة السيادة المتمثّلة في الاسترقاق، بما أنّ امتلاك الجواري يُعتبر منفذا ومخرجا لهذه العلاقة. لكنْ، ليست الرّغبة هي المُستهدَفَة هنا، وإنما المستهدف هو عدم الاعتراف بالسلطة. وقد فهم المتصوّفة، وهم يتحدثون عن العشق في ارتباطه بما هو إلهي، قوّة هذه العلاقة وصفاءها. ومن أجل هذا الصفاء جرى تشنيع العشق واحتقاره، واعتباره مسّا من الجنون يأخذ الإنسان إلى حافة الخراب، من طرف رجل الدين الأخلاقي. والأمثلة المذهلة عن العشّاق الذين لقوا حتفهم في اللحظة نفسها التي تحقّق لهم فيها، في نهاية المطاف، هدف لقاء المحبوب ووصاله (1) ، تبرز بالملموس بأنّ المقصود هو هذا التفرّغ التام للآخر. المستهدفُ، بتعبير آخر، هي هذه اللامبالاة التي للعشّاق تجاه الإله وتجاه خلفائه وتجاه العادات المعمول بها داخل الأسر. وهذا هو ما يثير حَنَقَ واتّهام رجل الدّين، على الرغم من أنّ هذا الأخير يصبّ جامّ غضبه على رغبة جنسية يُفترض أنها مدمّر وقاتلة. هذا اللفظ، الذي ليس وَقْفا على المحبّين، تم استثماره في وقت مبكّر من طرف السلطة. وقد استعمله النّصّ القرآني كثيرا في الحديث عن العلاقة القائمة بين الله وبين المؤمنين. غير أنّ محتوى هذه العلاقة يكتسي طابعا خاصّا بمجرّد ما يتعلق الأمر بالعلاقة القائمة ما بين المهيمِن والمهيمَن عليه، ما بين السيّد والعبد. وبكلّ تأكيد، فإن علاقات الصداقة التي يمكن أن يقيمها الملك مع أصحابه لا تخلو من عاطفة حقيقية ناتجة عن الجانب الإنساني عنده، والتي لا يمكنه التخلص منها نهائيا. إلاّ أنها علاقات تترجم على وجه الخصوص قُرْبا قويّاا لكونها تنتمي إلى سجلّ خاص للصداقة. وبناء عليه، فإنّ الحبّ، حتى نمتح مرّة أخرى من المتخيّل المبثوث في «لسان العرب» ليس فقط علاقة صداقة أو علاقة حبّ، بقدر ما هو أيضا، في الحقل السياسي، علاقة استرقاق وعبودية. المحبّ أو الصديق هو القريب المطيع والخاضع بصفة نهائية، على غرار الناقة الذلول التي تجثو على ركبتيْها ولا تستطيع حراكا بسبب عجز فيهما(2) . نحن هنا داخل عالم من المصالح المشتركة بينما عاشق يمْنح حبّا جنونيا ولامباليا بالآخرين. إنه بمثابة هاريكاري الحبّ. وقد احتفى الشعر العربي، سواء أكان شعرا مجونيا أم لا، احتفاء كبيرا بالعشق لكونه الشكل الكامل للتعلّق حيث يحتل المظهر الجانب الصدارة عن باقي المظاهر، وحيث نُبْل العواطف وسموّها ينافس الجمال مفاتن الجسد، وهي المظاهر التي لا يستطيع التعبير عنها أحسن تعبير إلا الشعر. إنّ رَجُل الدّين هو العدوّ اللّدود للشاعر الحقيقيّ. هذا الأخير الذي حافظ على فضاء للحرّية حيث الجميل يُحتفل به على الوجه الأكمل وكما ينبغي، وحيث الإنساني يحقق ذاته بصفة كلّية دون كبت لرغائبه المشروعة. فها هنا تمكّن العشق من إيجاد ملجأ له. ومن خلاله، فإنّ الشاعر الحرّ كذلك هو الذي تمّت محاربته. 1 الأبشيهي، المستطرف ، ص. 265 وما بعدها. 2 انظر مقالة «صديق الملك» ضمن كتابي «صداقة الأمير» . غدا: القرآن والشعراء