يحكي لورون جاك عن المذكرات التي نقلها إليه كارلوس، العقل المدبر لعملية احتجاز الرهائن في مقر منظمة أوبيك بفينا سنة 1975، عندما كان رفقته في أحد السجون الفرنسية. وجاء نشر هذه المذكرات ليكذب ما جاء في شريط سينمائي صدر مؤخرا حول كارلوس، حيث يظهره وكأنه قاتل محترف يقود مجموعة من المقاتلين الذين يتصرفون بهيستيريا تقودهم رغبة جامحة إلى القتل. لكن صيغة الأحداث كما جاءت على لسان كارلوس، تبرز مختلف حيثيات الإعداد للعلمية والاحتياطات التي تم اتخاذها من أجل تلافي وقوع ضحايا في الأرواح. إعداد وترجمة: عبد الله أوسار تعرفت على كارلوس لأنني قضيت بضع سنوات رفقته في سجن «بواسي» (لا يزال يقبع في السجن منذ خمسة عشر عاما، بعد اختطافه في السودان، خلال عملية مثيرة للجدل قادتها مصالح الاستخبارات الفرنسية). وحينه تم الحكم عليه بالسجن مدى الحياة، وجرى تنقيله من سجن إلى آخر، دون أن يتغير فيه أي شيء، نظارته الموقعة من «كارتيي»، سيجاره الكوبي المعتاد، شاربه القصير وقبعته الفرنسية الحمراء الثورية. اعتنق الإسلام ويتحدث العديد من اللغات، دون أن يخفي ذلك شيئا من لكنته الفنزويلية. مما لا شك فيه أن خروج هذا الشريط لم يسعده بالمرة، فحتى لو أنه يحب أن يرى الناس يتحدثون عنه، إلا أنه يظل على الدوام قلقا إزاء الحقيقة التاريخية التي تصل إلى الناس عنه، ولا يتردد في الثورة في وجه كل دعاية محورة تحاول استغلال صورته وحياته. ولهذا السبب أعطاني، عندما كنت معه في سجن «بواسي»، وثيقة حررها بيده تروي بالتفصيل حجز الرهائن في مقر منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبيك) بفيينا في الواحد والعشرين من دجنبر 1975 . وفي ما يلي القصة الحقيقية والمفصلة لتلك العملية كما جاءت على لسان بطلها. «أنا المتدخل الوحيد في هذا الحدث التاريخي الذي قامت به المقاومة الفلسطينية في الخارج، في أوج تألقها على الصعيد الدولي. كنت هناك خلال مختلف المراحل، من وضع التصور، التحضير، التنفيذ ثم ما بعد التنفيذ، تأمين العملية من الناحية اللوجيستية، السياسية والديبلوماسية. أنا أيضا هو صاحب التخطيط والقائد العسكري لها. وهذا ما يخولني رواية الحكاية بتفاصيلها وكل حيثياتها كما حدثت. بدأت عملية (أوبيك) مع كمال خير بيك، عضو المجلس الأعلى ، وأحد مؤسسي المنظمة الثانية التي تحمل اسم «أيلول الأسود»، جنبا إلى جنب مع الراحلين فؤاد الشمالي وفؤاد عواد، والشهيد حسن سلامة، وذلك بفضل ملايين الدولارات الأمريكية التي أتى بها ياسر عرفات. مع متم أكتوبر من سنة 1975، تم استقبال كمال بطرابلس من طرف قائد الثورة الليبية «الأخ العقيد معمر القذافي»، الذي اقترح أو طلب إن كان بإمكانه القيام بعملية «أوبيك» في العشرين من دجنبر، مقدما له المعلومات، الأسلحة والمصاريف. أجابه كمال بالقول: «هذا مستحيل، ليس ثمة ما يكفي من الوقت. كارلوس هو وحده القادر على الإعداد لعملية من هذا القبيل في وقت جد وجيز». كان الدافع الأكبر للقذافي متمثلا في: قيام العربية السعودية بالتلاعب بأسعار النفط. التقى كمال أيضا برئيس الأركان الحربية، العقيد أبو بكر يونس جابر، ورمضان، المسؤول عن العلاقات الدولية بالاتحاد الاشتراكي العربي (الحزب الوحيد)، الذي كان مكلفا بالمتابعة، حيث تم منحه مبلغ 30 ألف دولار من أجل تغطية التكاليف الأولية لرحلته إلى عدن، عاصمة الجمهورية الديمقراطية لليمن، التي توحدت حاليا مع اليمن الشمالي. وفي مستهل نونبر، حل كمال بخور مقسر، وتحدثنا إلى بعضنا البعض. منحته موافقتي شريطة أن يحصل على موافقة قائدنا واضح حداد (المعروف بتسمية أبو هاني)، الذي سيكون قوله: «هؤلاء الأشخاص ليسوا جديين». وسألني إن كان يتوفر على ما يكفي من الوقت. كنت حينها قد ناقشت العملية مع «ويلفريد بوس»، لذلك كان ردي «أجل، لو شرعنا في العملية من الآن». وضع أبو هاني شرطا: أن يقوم الليبيون بتوفير المعلومات. كما تكلفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بدفع جميع التكاليف. حينها منحني جميع الصلاحيات. حملت معي إلى بيروت رسالة منه إلى أبو محمد، المسؤول الإداري عن العمليات الخارجية التي تقوم بها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وعضو اللجنة المركزية. وصلت إلى مطار بيروت مرفوقا بويلفريد بوس، وكان لبنان حينها في قلب الحرب الأهلية. توجهنا مباشرة إلى كمال. ثم قام ويلفريد بالتوجه نحو رفاقنا في« RAF»، التي كانت تشتغل تحت حماية أبو الحسن. منحني أبو محمد 23 ألف دولار من أصل 50 ألف دولار التي طلب منه. وهناك أعطيت التعليمات بالتوجه إلى بغداد وإحضار يوسف من هناك، وهو شخص فلسطيني أثق فيه غاية الثقة. أما كمال فقد توجه إلى دمشق وبالضبط إلى السفارة الليبية للقاء حسونة شاويش، مساعد رمضان، نائب وزير الشؤون الخارجية الحالي، الذي أكد له أن الأسلحة والمعلومات ستصل في وقت قريب إلى فيينا، ثم منحه 100 ألف دولار لتغطية تكاليف العملية. كان محمدا حذرا للغاية (رغم أنه لم يكن عسكريا)، لذلك فقد قرر وقف التمويل، لأن الليبيين لم يقدموا المعلومات. وهناك قررت أنا وكمال وفؤاد عواد وويلفريد استغلال هذه الفرصة التاريخية. طلبت من كمال منح 40 ألف دولار لويلفريد من أجل السفر إلى زوريخ. كان كمال قد اختار شابا لبنانيا، ذا ملامح أوربية، لينضم إلينا، لكنه توفي خلال أعمال شغب على يد القوات اللبنانية، فاضطر كمال لتعويضه بجوزيف، حارسه الخاص الوفي، الذين كان يشتغل بسلاح البحرية. استقدم كمال معه أيضا شخصا يدعى أنيس نقاش، الذي سيصبح في ما بعد مساعدا لي. وصلت إلى فيينا على متن نفس القطار الذي جاء فيه ويلفريد وهانز جواشيم كلين، الذي سيعوضه في وحدة الكوماندو. ورغم قدرات ويلفريد العسكرية الكبيرة، حيث أشرفت بنفسي على تدريبه، إلا أنني رفضت أن أعرضه للخطر، على اعتبار أنه كان قائدا لجميع المقاتلين الألمان في ذلك الوقت، وكنت أرى فيها خليفة لي في القتال لو حصل لي أي مكروه. توجه أنيس إلى مدينة بيرن حيث يوجد عمه، سفير ليبيا، ثم التحق بي في فيينا، تاركا مساعده الخاص في جنيف، معتمدا عليه في الاتصالات. التقى أنيس بالسفير الليبي في فيينا، الماجور عز الدين الغادمسي (الذي سيروي كل شيء لوكالات الاستخبارات المركزية الأمريكية «سي أي إي»)، لكنه حينها لم يكن على علم بما يجري، ثم سيعود بعدها بسرعة إلى بيروت. عاد كمال بدوره إلى دمشق. تكلف رفعت الأسد بتوفير الحماية لكمال نظرا للصداقة التي تربطهما، وكان يحاول بدون جدوى إقناعه بالانضمام إلى الحكومة السورية، ومع ذلك، فقد كان بدوره يجهل كل شيء عن العملية التي كنا نعد لها. في التاسع عشر من دجنبر 1975، وبالتحديد في منتصف الليل، توصلنا أمام أوبرا فيينا بالعتاد الذي تم نقله إلينا عبر سيارة السفير وسيارة أخرى تابعة للسفارة الليبية. كانت المعلومات التي توصلنا بها من حسونة شاويش مبعثرة وغير دقيقة، باستثناء خبر تمديد المؤتمر إلى حدود يوم الأحد 21 دجنبر. جاءت إلينا ندى، وهي مقاتلة دولية، برسالة من أبو هاني، يأمرنا فيها بالتوقف، متخوفا من وقوع كارثة بسبب الليبيين. لكن ندى كانت ترى أن كل شيء كان جاهزا، لذلك فقد التحقت بمركزها في القتال، كما كان موضحا في برنامج العملية. قمت بتقسيم الكوماندو على شكل ثلاث وحدات بحيث تتشكل كل وحدة من شخصين: الوحدة الأولى تتشكل من كارلوس وأنيس نقاش؛ الوحدة الثانية تتشكل من ندى ويوسف، ثم الوحدة الثالثة تتشكل من كلين وجوزيف. وكانت القنابل التي يعتمد عليها الكوماندو من صنع سوفياتي. عمل ويلفريد بوس في فيينا على توفير الدعم اللوجيستي، المعلومات واحتياطي المقاتلين (وعددهم اثنان)، حيث ساعده في ذلك 16 من المقاتلين الدوليين المنتمين لجنسيات متعددة. قمنا بجميع الاستعدادات دون الاعتماد على الدعم الليبي، فنحن نتوفر على وسائلنا الخاصة، وعملنا على تعبئة جميع مخازننا من أجل تسليح المقاتلين، وأعددنا لعمليات الدعم وتأمين طريق نحو تشيكوسلوفاكيا. تمكننا عدة مرات من اختراق مبنى المنظمة الدولية للدول المصدرة للنفط، وكان بالإمكان الشروع في العملية منذ العشرين من دجنبر دون أي تدخل من الليبيين. في الواحد والعشرين من دجنبر، توجهنا عبر الترامواي رفقة ويلفريد ورفيقين آخرين، ومشينا لبضع دقائق قبل أن نجد أنفسنا أمام هدفنا أحد عشر ساعة قبل موعد العملية. كان المدخل الرئيسي للبناية هو الوحيد الذي كان مفتوحا. وفي الطابق الأول منها كان يوجد مقر المنظمة، ويشرف على حراستها رجل أمن واحد، في حين كان اثنان آخران يوجدان في البهو الداخلي ويرتدان زيا مدنيا، إلى جانب الحارس الشخصي لوزير النفط العراقي تايه عبد الكريم. وكان ثمة عدد آخر من الحراس الشخصيين بالقرب من سيارات الليموزين التي كانت تتوقف أمام المدخل الإسفلتي الذي يقود نحو المدخل الرئيسي. دخلنا الواحد تلو الآخر، وكنت أنا في المقدمة متحدثا بالإنجليزية لإيهام الآخرين بأننا صحافيون. صعدنا إلى الطابق الأول، حيث شرعت في الهجوم، بعد أن وفر لي أنيس التغطية. تم تأمين ذلك الطابق من عناصر الأمن دون أن تصدر أية ضجة. وبدلا من انتظاري، توجه أنيس رأسا إلى قاعة المؤتمرات في نهاية الممر، حيث ستتم مهاجمته هناك. التحقت به وتمكنت من السيطرة على الأمر بعد تبادل لإطلاق النار، الذي أسفر عن مقتل الكابتان يوسف إزميرلي، مساعد الوزير الليبي، كما أصيب مفوض كويتي على مستوى المعصم. تكلفت ندى ويوسف بالتصدي لمحاولة فرار أحد رجال الأمن النمساويين وإحدى الموظفات. أصيب رجل الأمن برصاصة من ندى في ظهره، في حين تراجعت الموظفة عن محاولة الهرب. عمل جوزيف وكلين بتأمين التغطية أمام المصعد والأدراج. ثم قام كلين بنزع سلاح رجل الأمن وإدخاله إلى المصعد بمساعدة ندى، وتم إرسال المصعد إلى الطابق الأرضي، ليتم نقله إلى المستشفى، لكنه سيموت بعد ذلك. حاول الليوتنان العراقي علاء حسن، مد ذراعه حول عنق ندى من الخلف، محاولا تجريدها من السلاح ومستغلا طوله الذي يتجاوزها بثلاثين سنتيمترا. كان كلين قد دمر مركز تلقي المكالمات ثم استدار ليرسل رصاصة استقرت في جبهة الليوتنان العراقي. تركت أنيس يراقب المفوضين الذين كانوا ممددين على الأرض، ثم قمت بتفقد جميع المكاتب وجمع الرهائن، الذين تجاوزوا المائة فرد، في قاعة المؤتمرات. وبعد ذلك، أشرفت على إعادة نشر أفراد الكوماندو أمام الممر الذي يقود إلى القاعة. كنت أنا وأنيس في الداخل، أما يوسف فقد قام بزرع كمية من المتفجرات في أحد أركان القاعة، حيث كانت معدة للانفجار في ثلاث حالات: 1 - بأمر مني. 2 - لو أنني قتلت أمام أعينهم. 3 - لو قام مهاجمون بالدخول إلى القاعة. اتخذ جوزيف موقعا في الجانب الأيمن من الممر، وكلين في الجانب الأيسر، وكانت ندى توفر لهما الدعم وتتحرك جيئة وذهابا على طول الممر. أفرجت عن كويتي، ثم مترجم بريطاني كلفته بنقل مطالبنا إلى الخارج... ولقد جاء نشر تفاصيل هذه العملية على لسان كارلوس في أعقاب صدور شريط يحمل اسمه ويقدم صورة وتفاصيل مغايرة لما اعتبره كارلوس حقيقة يؤكدها الشهود من الرهائن. حيث قال إن «إظهار رجال مصابين بالهستيريا يحملون رشاشات ويهددون أشخاصا عزل أمر سخيف كليا». وأضاف كارلوس، الذي ظل يؤكد أنه في خدمة القضية الفلسطينية والكتلة الشيوعية في تلك الفترة، إن «الأمور لم تكن هكذا. كنا محترفين، كنا فرقا كوماندو رفيعة المستوى». وكارلوس مسجون في فرنسا منذ توقيفه في السودان شهر غشت من سنة 1994 .