في قلب مدينة أصيلا و تحت شمسها الدافئة و غير بعيد عن بوابة زرقة بحرها و شغب أمواجه المالحة تستقر حديقة جميلة تحمل إسم الطيب صالح . هناك تحفّ اشجار اللوكاريا و الأعشاب الهادئة و ابتسامات الأطفال و مياه النافورة البيضاء التذكار المهيب المنصوب فيها لصاحب موسم الهجرة إلى الشمال . يحمل ذلك تجسيدا عميقا لترسيخ ذكرى الرجل بهذه المدينة و ارتباطه بها حتى صار إسما ثانيا لمغامرتها الثقافية . و ذلك بالضبط ما أعاده مرة أخرى موسم أصيلا الثقافي الدولي في دورته الثانية و الثلاثين مساء الجمعة 23 يوليوز الجاري في ندوة «الطيب صالح في الذاكرة : لقاء التأسيس « بحضور حرم الفقيد جولي صالح و شقيقه بشير محمد صالح وعدد من أصدقائه ممن ربطتهم به صداقة فكرية و ثقافية و إنسانية يتقدمهم طبعا محمد بن عيسى أمين عام مؤسسة منتدى أصيلا . كان في اسم الطيب صالح ما يسع عالما كاملا من الدهشة و الجمال و المحبة التي فاضت من قلوب المشاركين في هذه الندوة . إنه «سوداني من السودان « و لم يكن غير ذلك أبدا ، عاش في إنجلترا غريبا و مات فيها غريبا إلى أن شيّع إلى وطنه في هجرة أبدية .و لد في وسط جعل منه النخيل و النيل و القمر بيئة رومانسية بحزن عميق حيث كل الناس يقولون شعرا أو يحفظونه توقا للحبيب البعيد أو شوقا للحجاز . هو ابن هؤلاء الناس المتسامحين ضربه سلطان الأدب بصولجانه . و كان عيشه كفافه . لم يسع إلى الشهرة أبدا و إنما أتت إليه الشهرة تجرجر أذيالها . أخذ عن والده الوسطية و التسامح و عن والدته عشق الشعر وسحر الحكي . كان بسيطا في كل شيء صوفي النزعة يظن خيرا بكل من احتك به . ذلك ماحملته شهادة شقيقه بشير. أما الإعلامي طلحة جبريل فاستعاد في كلمته علاقة الطيب صالح بالمغرب . فقد أعجب الرجل بمراكش و ارتبط بأصيلا . و رافق نمو فكرة موسمها من مجرد مهرجان عادي إلى مؤسسة ذات إشعاع عالمي . إذ كان يعتبر أن أصيلا خلقت ميثولوجيا المكان من خلال من يعيشون فيه و من مروا منه ، أولئك المبدعون القادمون إليه من اليابان و البرازيل و جنوب إفريقيا و أمريكا و فرنسا و مختلف بقاع العالم ، و الذين يعبرونه حاملين شيئا منه معهم فيمتد بعيدا من خلالهم . كان الطيب ماهرا في السباحة مستعيدا صباه في أحواض أصيلا ، يفضل جورج أمادو الذي التقاه في موسم هذه المدينة على غبرييل غارسيا ماركيز . أقام علاقات متينة مع أهاليها ، أينما مر بشوارع و حواريها إلا و يصافحه أحد مناديا إياه باسمه ، و هو شيء يندر حدوثه في العالم العربي . «الطيب حاضر هنا و في كل زاوية من هذا المكان ، اخترق الحجب الثقافية و انتصر للإنسان و الحضارة ، يقول الإعلامي الشهير حسن إبراهيم ، هذا الرجل يخرجني من حالة الإحباط و الحسرة على الذات ، في شخصه من الجمال ما يكفي عالما بكامله . وفاته لن توقف أبدا مشروعه ... إن حضوره يملأ الكيان و يعانقنا ..» كان للطيب صالح جوانب أخرى أكثر إثارة استحضرتها باقي الشهادات ابتداء من حفظه لمتون الشعر و ارتباطه العميق بالتراث العربي و عنايته بالموسيقى . حتى أن بعضهم سماه ديوان العرب المتنقل الذي عاش حيوات متعددة ،و المدهش في تواضعه و الممتع في رفقته.. محمد بن عيسى الذي استحضر في تأثر كبير علاقته بالمحتفى بذكراه الروائي الطيب صالح معرجا على ظروف لقائه الأول به في الدوحة سنة 1978 لإطلاعه على مشروع أصيلا الثقافي ، و ما توثق بعد ذلك من علاقة إنسانية وفكرية بينهما ، دعا إلى إنشاء جمعية الطيب صالح كإطار مكمل لمركز الخرطوم الذي يحمل نفس الاسم ، يعنى بأعماله و يشجع البحث في كتاباته و ينظيم ملتقيات حوله ، و يدعم المشاريع الأدبية و الابداعية التي تهتم به. مثلما أعلن عن تأسيس كرسي دائم للدراسات في إطار جامعة المعتمد بن عباد الصيفية . كان كل شيء في هذه الندوة يذكر بأن وجه الطيب صالح مطبوعا في كل مكان من هذه المدينة، في زرقة البحر و ملوحة الأمواج وفي والجدران المطلية بالبياض و الحب وكل شيء جميل .. حتى صار الطيب و أصيلا اسمان لذات الحلم و ذات الفرح ..