تحدث في التاريخ مصادفات وأحداث لا يتم تسجيلها إلا عندما تصبح في كنف التاريخ أو جزءا منه. ومن بين هذه الوقائع، واقعة «التوسع» في الحريات التي عرفها الفكر المغربي في السنوات الأخيرة، بحيث لم نعد نسمع عن كتب فكرية تمنع أو تصادر مثلما سمعنا في حقبة السبعينات والثمانينات عن منع كتاب «الجذور..» لعبد الله العروي و«اللسان المقطوع» لمحمد البريني و«مسعودة» لعبد الحق سرحان.. الخ . وحتى عندما يتم التضييق -اليوم- على صحيفة ما، فإن الرأي العام يستهجن سلوك الصحيفة قبل استهجان موقف السلطة التي مارست التضييق. إن من المؤسف حقا أن يقابل تراجع «التضييق» على الفكر في بلادنا بتقاعس غير مبرر وغير مفهوم من طرف منتجي الفكر في لحظة بدأ فيها «ذكاء» جديد يحل بين ظهرانينا. وقد شمل هذا الذكاء علما ظل إلى عهد قريب منبوذا من طرف السلطات العمومية، بسبب شغفه الأصلي بالعدالة الاجتماعية، وبالحرية السياسية وحقوق الإنسان؛ ألا وهو علم الاجتماع. وللتدليل على هذا الوضع الجديد تجدر الإشارة إلى الندوة التي نظمتها الجمعية المغربية لعلم الاجتماع في الأسبوع الأخير من شهر يونيه الماضي بالرباط حول «الإنتاج السوسيولوجي بالجامعة المغربية» بدعم كامل من وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي. ولاشك أن دعم الوزارة للجمعية دون أدنى تحفظ أو تدخل في اختياراتها، يعد مؤشرا إيجابيا على التحول الهام في تعاطي السلطات العمومية مع علم الاجتماع بعد سنوات طويلة من الجفاء. وهو أيضا مؤشر إيجابي على انفتاح آفاق جديدة للعمل أمام السوسيولوجيين المغاربة. وإذا كان هذا التجاوب يشكل حدثا فارقا بين الأمس واليوم، فهو يمكنه أن يشكل أكثر من ذلك مدخلا لتفتح القطاعات العمومية الأخرى على الجمعية وأعضائها وأبحاثهم. وفي تقديرنا أن تنظيم هذه التظاهرة العلمية في عمقها ومظهرها تعبير عن وعي الباحثين السوسيولوجيين بأهمية هذه اللحظة وضرورة ترجمتها على أرض الواقع من خلال النهوض بفكرة علم الاجتماع في بلادنا وإشاعة ممارسته نظريا وميدانيا، والعمل على التعريف بمنجزه العلمي وترصيده، ودعوة كافة المنتسبين إليه مدرسين وباحثين، سواء من الرواد الأوائل أو المحدثين، إلى الانخراط في ثقافة الاعتراف المتبادل بمجهودات الآخرين، بدءا بالاطلاع عليها وترصيدها، مرورا بقراءتها ومناقشتها، وانتهاء بنقدها وتقويمها. إننا هنا في غنى تام عن إبراز مدى حيوية الإنتاج السوسيولوجي في المغرب وثرائه، ومدى انفتاحه على محيطه المعرفي، وانخراطه في معالجة قضايا عصره وطنيا ودوليا. لقد تناولت الأبحاث السوسيولوجية في المغرب كثيرا من القضايا والموضوعات، وركزت على أهم القطاعات والفئات والطبقات، ورصدت مختلف مشاكل المجتمع المغربي في بواديه وحواضره، ولذلك تغذي الجمعية المغربية لعلم الاجتماع آمالا كبيرة في استثمار هذا الرصيد المعرفي الهام من خلال إنشاء بنية وطنية للبحث السوسيولوجي، أملا في أن تشكل هذه البنية مدخلا لتمهين السوسيولوجيا، وإخراج قانون منظم لممارستها. لقد ناضلت الجمعية خلال أزيد من ثلاثة عقود من أجل بقائها والمحافظة على وجودها وإرثها القانوني والرمزي بفضل الحرص الذي أبداه رئيسها الدكتور محمد جسوس ونخبة من طلبته وتلامذته، إلى أن جاءت سنوات بدأ فيها حبل التشدد يلين، فانتعشت الآمال في بروز حياة جديدة لهذا العلم. واللافت للنظر، بل والمثير للتقدير والإعجاب، أن طلبة علم الاجتماع ظلوا برغم ضيق الأفق وانسداد أبواب التشغيل، يقبلون على الانتساب لشعب علم الاجتماع أينما توفرت، وظلوا يسافرون إليها عبر مسافات بعيدة، منعشين بذلك الأمل في قدوم يوم يحتل فيه علم الاجتماع مكانته اللائقة به في المجتمع. وهكذا لم يعد ما يحرك الجمعية اليوم كما أصبح يدرك ويلمس الجميع هو هاجس البقاء والاستمرار، وإنما الحضور والعطاء والمشاركة. ومن هذا المنطلق بالذات سعت الجمعية إلى تنظيم لقائها الوطني الثاني حول الإنتاج السوسيولوجي بالجامعة المغربية قصد التعريف بالمتن السوسيولوجي المغربي، لأن كثيرا من الرسائل والأطروحات والأبحاث الجامعية أو التي أنتجت في محيط الجامعة لم تجد طريقها إلى النشر، برغم أهميتها ومستواها الأكاديمي الرفيع، مما يجعلها تتقادم في معطياتها، وتموت موتا بطيئا فوق الرفوف إلى أن يتم نسيانها. وقد أعلنت الجمعية بمناسبة انعقاد هذه الندوة عن اجتهادها في البحث عن شراكات مع السلطات المعنية بالثقافة والفكر والعلوم في بلادنا قصد نشر هذه الأعمال وإخراجها إلى النور، معلنة عن رغبتها الواعية في تسويق فكرة علم الاجتماع، وكسب تأييد جماهيري ومؤسسي لها. وقد شرعت فعلا فئة من الباحثين في محاولة كسب هذا التأييد من خلال ممارسة ما يعرف بسوسيولوجيا الجماهير أو سوسيولوجيا العموم، بحيث لا يترددون في نشر تعليقاتهم وآرائهم حول قضايا مجتمعية مختلفة على صفحات الجرائد والمجلات سواء منها المتخصصة أو ذات الطابع العمومي، معلنين في غير تردد عن انتسابهم الأكاديمي لعلم الاجتماع ومتحملين مسؤوليتهم الأدبية كاملة في التحدث إلى العموم بهذه الصفة. وقد لاحظنا بروز هذه الظاهرة في الصحافة الوطنية خلال السنوات الأخيرة مما يستدعي انتباه وحرص الجمعية وكافة الباحثين والمهتمين.ولعل هذه الرغبة في تقديم علم الاجتماع خطوات إلى الأمام قد تخطئ كما قد تصيب هو ما دفع الجمعية إلى الخروج من انتظاريتها التي سكنتها زمنا طويلا بمبررات شتى، والسعي إلى إعداد دليل مهني للسوسيولوجيين المغاربة بأسمائهم وصورهم وتخصصاتهم وعناوينهم الالكترونية، وهو أيضا ما دفعها إلى تأسيس موقع لها على الشبكة العنكبوتية. إن من مهام الجمعية، بل ومن مسؤولياتها العلمية والأخلاقية، التعريف بالمتن السوسيولوجي المغربي، وفتح نقاش عام حوله، لاختبار مدى قدرته على تجديد الأسئلة حول العلاقة بين الجامعة والسياسات العمومية من جهة والمجتمع من جهة ثانية. إننا عندما نأخذ مسافة كافية من هذا الإنتاج ونتأمله، نجد أنفسنا أمام مجموعة أبحاث ودراسات فرعية متفرقة لا خط ناظم بينها، والأمل معقود على إيجاد هذا الخط الناظم قصد توحيد جهود الباحثين، والرفع من عطاء ومردودية أبحاثهم. ولأن علم الاجتماع يمارس تسريبا عابرا لعلوم إنسانية أخرى نظرا للطبيعة المتداخلة لسياقات هذا العلم وسياقات مجاورة له، فالأمل معقود كذلك على فتح حوار بين علم الاجتماع ومختلف هذه العلوم قصد تعاونها وتحديد مجالات تدخلها وتداخلها.