هذا التراجع المسجل من طرف الرجل مرده في تقديراته العقلانية، إلى رغبة المسؤولين عن السياسة التربوية و التكوينية في البلاد إلى الدخول في إصلاحات تحديثية، من خلال الاعتقاد بضرورة حيازة مفاتيح الحداثة اعتمادا على اللغة الأجنبية، و التي قُدرت من طرفهم كإمكانية لحل مشكلة التأخر العربي الإسلامي في الانفتاح على الغرب ، و هو نفس الإشكال الذي شغل و لا يزال يشغل الفكر العربي منذ يقظته الحديثة يقول الراحل في احدى المقالات المنشورة بمجلة الوحدة ، تحت ضغط التحدي الحضاري الغربي، و الذي يدور حول أيهما يجب أن تؤسس عليه نهضتنا ؟ : النموذج العربي الإسلامي كما جسدَه، بل كما نُجسدُه نحن في السلف الصالح»، أم النموذج الأوروبي كما جسدته، بل كما نجسده نحن في الليبرالية الغربية و ما تفرع عنها، الشيء الذي يبرز بجلاء التأرجحات القائمة على مستوى الاختيارات السياسية التي كان من الأجذر يقول الراحل تفاديها لتنظيم المجتمع المغربي، و لبنينته سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا و تربويا و تعليميا خدمة للتنمية الشمولية التي تستهدف البناء الاشتراكي المراهن عليه . و في هذا الإطار أكد الدكتور محمد عابد الجابري على ضرورة نهج أسلوب المقاومة و التغيير لمثل هذه الاختيارات السياسية لتحقيق رهانات الشعب المغربي قاطبة في الحصول على منظومة تربوية و تكوينية و مدرسة وطنية تستجيب لطلعاته و لاحتياجاته و لرسالته التاريخية و للغته الوطنية و القومية؛ يقول في هذا السياق: « فالنضال من أجل تعميم التعليم و تعريبه و إعطاءه طابعا قوميا تقدميا، هو جزء من النضال العام الذي يخوضه الشباب و المثقفون التقدميون ضد الايدولوجيا الهجينة السائدة، الايدولوجيا التي تحاول أن تجمع باسم الأصالة و المعاصرة، بين ما هو رجعي في تراثنا، و ما هو سطحي و متخلف في الايدولوجيا البورجوازية»؛ و لعل المشروع الفكري الفلسفي الذي سلكه الرجل في نقد العقد العربي يبرز و بوضوح تام موقفه الراديكالي بين الانزياح للتراث و بين المد الانتقالي الحداثي المستهدف كاختيار محكوم لشروط الذاتية و الموضوعية قائمة على نظرة عقلانية و نقدية. لنواصل الحديث في هذه القضية: لقد كان للرجل اشراقات فكرية متقدمة عن بعض المقاربات التي اعتمدت في بعض الدراسات التي تنتمي لحقل سوسيولوجية التربية بأوروبا « جورج سنيدرس نموذجا» خصوصا عندما أكد على ضرورة النضال من داخل المدرسة مهما كانت خلفياتها الأيديولوجية السائدة، قائلا: « إن المدرسة المغربية الراهنة هي عبارة عن جهاز بورجوازي بمضمون اقطاعي، و لكن هناك أطروحة نقيض ذلك فمن صلب المدرسة تخرج باستمرار قوى الرفض و التغيير»؛ تجليات هذا الطرح انجلت بوضوح في الإضراب العام الذي عرفته مختلف القطاعات بما في ذلك قطاع التعليم و ذلك أيام 10 11 أبريل 1979، على اعتبار أن المنتسبين لهذا القطاع ليسوا كلهم زبناء للنظام السائد و للطبقة المهيمنة على وسائل الإنتاج و قوى الإنتاج داخل المجتمع. فالرهان على نظرية تربوية صالحة لبلد متخلف يقول الراحل لا يمكن البحث عنه إلا في إطار الممارسة النضالية التي تستهدف التحرير الشامل لمجتمعنا ، فتحرير الطفل المتعلم لا يمكن أن يتم إلا في إطار تحرير المجتمع ككل؛ و تلك أطروحة مركزية دافع عنها محمد عابد الجابري في مختلف مشاريعه الفكرية التربوية مهتديا في نفس الوقت إلى الفكرة التالية: « إن مشكل التعليم في المغرب لن يجد حله الصحيح و الوحيد إلا في إطار حل جذري للمشكل العام السياسي والاقتصادي و الاجتماعي» ؛ و هو طرح شمولي و ماكرو سوسيولوجي لا ينظر إلى القضية التربوية التعليمية كقضية منفصلة عن سياقها السياسي و السوسيواقتصادي، و إنما كقضية مجتمعية ناظمة لكل الحقول و المجالات الفاعلة في المشهد السياسي القائم داخل المجتمع. حتى نختم نشير في هذا الإطار لبعض من الاشراقات التربوية التكوينية التي فطن لها الراحل منذ السبعينات من القرن الماضي كحلول للنهوض بقطاع التربية و التكوين داخل المجتمع، و التي استدركها و بشكل تقني اختزالي مؤخرا برنامج المخطط الاستعجالي في الألفية الأخيرة الثالثة دونما وضعها في سياق المشروع المجتمعي المراهن عليه، و يتعلق الأمر: 1 تعريب التعليم: و لكن من منظور شمولي يقول الراحل ،لا يرتكز على تعريب المواد التعليمية و ترجمتها وإنما تعريب الشارع المغربي بمختلف مؤسساته المقصودة و غير المقصودة؛ و إن الواقع الحالي لقضية التعريب في المجتمع المغربي مازالت ملفوفة بسياجات داخل دواليب الوزارة الوصية على التربية و التكوين، و بمواقف ارتكاسية محكومة للمد الفرنكوفوني و للعوامل الجيو سياسية التي تربطنا بالغرب عموما. 2 دمقرطة التعليم: نظر لها الرجل من منظور اشتراكي و راديكالي في فترة السبعينات من القرن الماضي مقترحا في ذاك و بشكل عقلاني هادف مجموعة من الإجراءات التي وجب اتخاذها كمنطلقات الاستراتجية في تدبير الشأن التربوي التكويني بالنسبة للفئات المستهدفة داخل المدرسة الوطنية المأمولة في مشروعه الاشتراكي، و بالنسبة للاختيارات البيداغوجية التي يجب أن ترتكز عليها المناهج الدراسية المقررة: 1 تمكين جميع الأطفال مهما كانت مستوياتهم الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية من بلوغ أعلى مستوى من الثقافة العامة و الأهلية المهنية التي تناسب ميولهم و استعداداتهم،عبر إقرار إلزامية تعميم التمدرس بالنسبة للجميع بدون استثناء و الاحتفاظ بهم، و هو رهان متأخر بالنظر لما استطاع الراحل التخطيط له عبر عنه الميثاق الوطني للتربية و التكوين في بعض دعاماته، و تم استحضاره أيضا في مشاريع برنامج المخطط الاستعجالي تحقيقا لمدرسة النجاح؛ و تلكم قضية مطروحة للنقاش على المدى القريب. مما يزكي البعد الاستشراقي للرجل في التنظير للآفاق المستقبلية التي وجب أن تكون عليها المنظومة التربوية التكوينية خدمة للتنمية الشمولية. 2 تضييق الهوة التي تفصل العمل اليدوي و العمل الفكري، و التي تبناها إصلاح التعليم لسنة 1985 و لكنه لم يقدر على تطبيقها لغياب فعاليات اقتصادية منخرطة بشكل إرادي في المشروع التنموي الاقتصادي و التكنولوجي. فلذلك كان يرى الراحل بضرورة ربط المدارس في المدينة بالمصانع، و ربط البادية بالحقول، لكي يتلقى الأطفال معلومات نظرية توجيهية في الأقسام و دروسا تطبيقية في المصنع و الحقل، و يتحولون إلى منتجين ينالون حصة من إنتاجهم تشجيعا لهم و إعانة لأسرهم، في نفس الوقت الذي يتابعون فيه دراستهم التي ستهيئهم للمشاركة بفعالية في خدمة التنمية في بلادهم؛ يبقى الاختيار الوحيد الذي دافع عنه الراحل عبر تراخي الزمن أن ربط التعليم بالتنمية الشمولية لا يمكن أن يتحقق إلا بالربط الجدلي بين التحرير و الديمقراطية و الاشتراكية... في إطار تصميمات تعمل على تحرير الأرض و الاقتصاد و الفكر و الإنسان. تلكم بعض من الاشراقات التي وقفنا عليها من خلال أعمال المفكر محمد عابد الجابري، و من الصعب التطرق لكل القضايا التربوية التكوينية التي تبناها الراحل في مختلف مشاريعه الفكرية، أتمنى أن تتاح لنا فرصة لتنظيم ندوة وطنية يتم استحضار فيها كل ما استطاع الرجل أن يراكمه من أعمال، وفاء لروحه، و اعترافا بالخدمات الني قدمها للمجتمع المغربي كسياسي و كمثقف عضوي و كمؤسس لنظريات فلسفية في المغرب و العالم العربي و الغربي.