1 خلافا لما يوحي به عنوان هذه القصة، فأنا لا أحب الضياع بتاتا. إنني مخلوق ميّال، أو صرت ميالا إلى السكينة والاستقرار،لا أغادر الحي الذي أقيم فيه إلا لماما، ومن أبنائه من يضبط الساعة على مواقيت ظهوري. من كثرة ما امتلأ كوكب الأرض بالبشر، واكتظت الطرق بالسيارات والحافلات، بتّ أخاف من التنقل في الزحام، كما لا أفهم كيف يمتطي كل بني آدم سيارة بمفرده، ويمضي بها وهو يتميز من الغيظ، يشتم، ويبصق، ويلعن اليوم الذي جاء فيه إلى هذه الدنيا، ويتعجب من أين اندفعت هذه الخلائق مرة واحدة، لتسد عليه الطريق. 2 في شبابي كنت مولعا بالسفر،وحملني رأسي وهوسي الطائرين آنئذ إلى لندن،التي يسميها العرب عاصمة الضباب، وكانت سماؤها صافية في ذلك الأسبوع. أول ما فكرت في زيارته هو حي سوهو.عرفته من قراءتي لرواية لكاتب إنجليزي يدعى كولن ولسن،عنوانها: «ضياع في سوهو». تجولت في أزقته الوسخة نهارا،وتفرجت على دكاكينه،وفي الليل هبطت إلى بعض أقبيته حيث العربدة وموسيقى وألوان صاخبة. أذكر أن ما ضيّعته فيه حقا هو هدوء دماغي، وجنيهات ابتزت مني، وحقيبة يد اختطفها لص عابر، وفي الأخير ثقتي بهذا الكاتب الذي لم يكن إلا موضة نقلناها مبهورين إلى العربية، دأبنا دائما مع الموضة! 3 بقيت أسافر عمرا كاملا، أنتقل بين البلدان، كأني إيزيس تجمع أشلاء زوجها أوزريس، وفي كل مرة أقول إنها الأخيرة، يلزم أن أضع حدا لنهمي من ملذات الحياة، فهي لا تنتهي، والإنسان فانٍ،عليه اذخار نفسه لما هو أهم. لكن ما هو الأهم؟ وبينما لا يتوقف بحثي عن جواب للسؤال،كنت أواصل الترحال في البلاد،وفي الأجساد،أيضا،عشّاقٌ ملاّلٌ أنا، لم أعرف الجوع يوما،إنما لا شيء يشبعني كذلك،وهذا لا يفهمه رجال ونساء كثيرون عاشرتهم، يقنعون بما تيسر، فيما أشعر أني كلما كررت تجربة سأضيع كما في الماضي، لذلك أقول كفى،لذلك قررت من بين أمور أخرى، مثلا، أن أتوقف عن السفر، ولو على سبيل التجربة. 4 منذ أسبوعين وصلتني دعوة من تونس للمشاركة في ندوة ثقافية. ترددت طويلا قبل الرد لأن أغلب هذه المناسبات مضيعة للوقت،ومسرح فرجة للثرثرة والنرجسيات، ولأن السفر إلى أي بلد عربي محفوف بأي شيء يمكن أن يداهمك. كان المضيف لطيفا،ولي معرفة سابقة بالمكان، وموضوع الندوة لا يخلو من أهمية، فقررت وضع حد لخمولي، وإلا سيتحول إلى وسواس. قرأت أن الخوف من الضياع فوبيا، وإذا استسلمت له سأحتاج إلى مساعد في كل حركة إلى الخارج. ثم إن مدينة قابس مقر الندوة، سكانها طيبون،وهي فسيحة، بين الساحل والصحراء، والواحات القريبة منها تفتح النفس على الطبيعة والسكينة، وهذا بعض حاجتي. 5 لكن ذكرى محددة من زيارة سابقة لقابس أدارت رأسي. تقع المدينة على الساحل الشرقي لتونس، أي على البحر الأبيض المتوسط. من نافذة غرفتي كنت أشرف على البحر حين رأيت شخصين يمشيان على رأسيهما. هما عاقلان لا بهلوانان، وأنا أعرفهما،ولما واصلا سيرهما فكرت أن الأرض إما انقلبت وإما رأسي هو المقلوب. قضيت وقتا لا أميز، وما أزال، رغم أن أولاد البلد أفهموني أن هذا طبيعي،لأني اعتدت رؤية موقع المتوسط في الشمال، وهم يرونه في الشرق، ليس غير. بعد ذلك ضعت في قابس، وذكراها عندي ضياع. 6 عاد خوف آخر ينتابني من تلبية الدعوة. مذ متى لم أزر تونس؟ وجدتها سنوات ممتدة ورائي. خفت من ذاكرتي. خفت في الحقيقة من ذكرى محددة جعلت بلدا بأكمله يشخص فيها. ما هو بشعر، وإنما هي امرأة احتك ذراعانا صدفة بالسوق العربي بالعاصمة،واعتذرنا لبعضنا في وقت واحد، فتشابكتت عيوننا، وما أذكره بعد ذلك هو أني سرت خلف ملحفها الأبيض، أقتفي خطوها بين أزقة وممرات إلى أن ولجت بويبة وهنا التفتت فتبعتُ نظرتها، ولا أعرف كم قضيت في عرصتها الخفية،ولا أين تقع،عجزت عن الجواب بعد أن عثر علي مضيفيّ أسبوعا بعد ذلك وأنا في حالة هذيان أقول لهم إن بلدكم يخطف فيه الجان الإنسان! 7 في مرة سابقة،هي الأخيرة،ذهبت إلى مدينة في جنوبتونس. ركبت مع مسافرين آخرين سيارة أجرة. كلما قطعنا عشرين كلمترا يوقفنا الدرك ليتحقق من هويتنا والسائق يضرب أخماسا في أسداس. أوقفنا ربما عشرين مرة،لا أجرؤ أن أسأل ما يجري،بينما الركاب وجوههم صفراء. ظننتني سمعت من يأمرني:»عليك أن تخاف مثل هؤلاء،أو سنضطر لتخويفك!». طلب الدرك من السائق أن يغير وجهته، فمضينا في طريق محفور، مترب، وأشعرنا المرعوب بعد ساعة أنه ضائع، وبعد ساعة أن هناك أمل، وبعد ساعة دركٌ جددُدٌ يسألوننا لماذا نسلك طريقا جانبيا، ولم أخف حين سألوني عن هويتي،لأني كنت نسيتها! 8 حين انتهت ندوتي في قابس ركبت القطار الصباحي المتجه إلى العاصمة. كان هناك عدد كبير من المسافرين، وقاطرتي مكتظة. إلى جواري جلست سيدة ترتدي بنطلونا وتضع على عينيها نظارتين سوداوين. لم أسمع تنفسها،رأيتها في قاعة الندوات مع الجمهور،لا تكف تظهر وتختفي،لا تكلم أحدا. غفوت دقائق ولما فتحت عيني لم أجدها. بحلقت هنيهة أمامي، استدرت، لكني لم أجد أحدا في قاطرتي. مر بي جابي التذاكر فسألته عن المسافرين. نظر إلي متعجبا، قائلا إني المسافر الوحيد منذ مدينة صفاقس، وسنصل بعد قليل إلى قابس. ماذا؟، لكن وجهتي العاصمة. من الأفضل أن تنزل إلى الجنوب،لأنك في الشمال ستضيع، كالعادة! 9 لما أعلمت صديقي بن يوسف بنيتي السفر إلى تونس لم يملك نفسه من العجب: وبلدك المغرب، الذي لم تزره منذ سنوات؟! سهمتُ فرشّني بماء، ظنني أغيب، فعدت إليه متلعثما : ال..مغ..رب؟ م..غ..ر..ب؟ ولكني في المغرب،هه! ثم أين يقع المغرب،هه؟ ثم إني شاهدت في التلفزيون أن مغربك سيُفوَّت إلى شركات أجنبية تستثمر فيه أنواعا مستحدثة من البشر والمزروعات،و.. فقاطعني بن يوسف: هذا هذيانك، أنت هنا ولست هنا، وسواء ذهبت إلى تونس أو إلى المريخ فلن تعثر إلا على ضياعك؛ أنصحك ابق هنا ولنتعاشر حول ما لم نجده! 10 كان يجدر بي أن أتبع نصيحته، إذ لما نزلت في محطة قطار تونس العاصمة لم أجد من توقعته ينتظرني. رأيت ركابا ينزلون من قاطرات أخرى،وهم يسرعون وفي الخارج يختفون في سيارات وحافلات وعربات ترمواي وشاحنات يقفزون إليها أو يُلقون بداخلها مع أناس آخرين عابرين أو مسحوبين من رؤوسهم وأرجلهم، وفي الجو دخان وغبار،أو هكذا خُيِّل إليّ، فتذكرت طبيبي النفسي الذي نبهني إلى أن كثرة التفكير في القهر يورث الغمّ، وقد يدفع إلى الرأس خيالات وسيناريوهات فتختلط على الواحد الحقيقة بالخيال، وقد يخرجه لا قدّر الله من سوق رأسه.! 11 لكني كنت متأكدا من وجودي بتونس،وليس بأي عاصمة أخرى، وهذا ببساطة لأني رأيت بأم عينيّ صورة كبيرة لرئيس دولة هذا البلد منصوبة في ساحة أمام المحطة، ثم رأيتها معلقة في كشك صحف،هي ذاتها في الصفحة الأولى،وطار الشك لما سمعت غناء صليحة تهدهد النهارقبل الليل من مذياع قريب،ثم لما نزلت من التاكسي في شارع بورقيبة، فغمرتني موجات عاتية من النساء والفتيات،غاديات رائحات،بألبسة خفيفة، ووجوه حسنة التقاسيم، وحركات مرحة،وهن واثقات من غنجهن،يُغِظن شبابا منتشرين على أرصفة المقاهي يتحاورون بلغة الشتائم، وهم يرشقنهن بالغزل البذيئ؛ قلت أين يوجد هذا الرونق إلا هنا في.. 12 « صلِّ على النبي!ّ صلِّ على النبيّ !» دارت الأرض،والله،بي، الزقاق المتفرع عن شارع بورقيبة امتد عنقَ زجاجة دخلت فيها(هل خرجت؟). دارت السماء فوق رأسي، أم صرت أسبح في علاها، وعلى شباك فسيفسائي القضبان ركزت النظر لأحافظ قليلا على توازن اختل، أقبض بقوة حزام حقيبتي كي لا أفقد الجاذبية. الماضي والحاضر والمستقبل اجتمعت كلها في هالة استوقفت المارة، وأنا منهم، فخروا رُكّعا سُجّدا لها. فركت عيني لأميز صحوي من المنام، فما عرفت من الصحو إلا أنهما انشدّتا إلى الهالة، ربما انقذفتا عليها، قد خرجتا من محجريهما، وغادرتا الوجه الذي يحملهما،والجسد ما عاد الجسد، تلاشى،أو بقي واقفا في فراغ الزمان والمكان،لاشيء بعد! 13 أحسست بيد تمسك بي، لتقيني من السقوط في اللاشيء. كانت يد عبد الرحمن (الربيعي). انتبهت أنها يده: ها (أبو حيدر) أنت هنا! تأكدت مجددا من وجودي في تونس، فها هو البلد الوحيد وأهله الذي يؤويه بعد أن ضاعت بلاد كان اسمها العراق. على رٍسلك أبو شهاب، ألم تسمع الصوت:»صل على النبي!»،هل ضاع لسانك، وقد انعطف منك قلبك،أم نزلت على عينيك غشاوة؟! في المرة الثانية، وكمن يدعم جدارا آيلا للسقوط أحاط ذراعه بذراعي، أكاد أرتخي عليه بجسد متداع، بينا عنقي ملتو كله إلى الخلف،إلى الجهة التي صدر منها العجب. يا بوشهاب، ألم تسمع» صل على النبي!»، أنت الذي كلك حس وإحساس، لبِّ أولا، لبّ! 14 كنت قبلئذ قد انخلعت من جسدي. هذه امرأة،لا بل جبل وبركان وإرم ذات العماد، والحسن الذي تشبّه به القمر. يراني عبد الرحمن أذهب إليها والجنون قدامي خارج من عيني. أراني جمعت عطشي وجوعي وشبقي وأشواقي، إيماني وقلقي، وأهوال أحلامي ودخلت بحرها أخوض عبابها، أتخبط في موج عرقي، لما لم يبق بيننا إلا شعرة هتفت:»صلّ على النبي!» وفي جوفي» اللهم صلّ عليك يا رسول الله» لا تخرج، ولا أي كلمة تقال أو تنفع،..إلا صوت جابي القطار يطلب مني: انزل يا أستاذ، وصلنا إلى تونس، إنها نهاية الرحلة!