كيف نفسر هذا الحب الزائد لليهود في الوقت الذي تعرض فيه كل تلفزيونات العالم الممارسات الهمجية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين؟ لماذا هذا الاهتمام بالهولوكوست بعد مضي نصف قرن تقريبا على حصوله؟ كيف ولماذا أصبح الهولوكوست عنوانا لكل ما هو غير أوربي ؟ لماذا يسعى اليهود الصهاينة لاستبعاد كل الضحايا غير اليهود من الذاكرة الإنسانية العامة بينما تقام المتاحف ويخصص يوم، سنويا، لإقامة ذكرى المحرقة اليهودية؟ ما هو الدور الذي يلعبه أدباء ما يسمى «اليسار» الصهيوني الحالي في ترويج الفكر الكولونيالي الجديد وفي بناء إيديولوجية الدولة الإسرائيلية وتسويقها في الخارج؟ تلك أسئلة يطرحها الشاعر والمناضل الإسرائيلي اسحق لاور في كتاب صدر بالفرنسية بعنوان (الحب الأوروبي الجديد للسامية و«معسكر السلام» في إسرائيل) ثم ترجم إلى الإنكليزية بعنوان ( أساطير الصهيونية الليبرالية) مع مقدمة بالغة الأهمية موجهة إلى قراء الإنكليزية، الأمريكيين بشكل خاص. قدم الكتاب خوسيه ساراماغو وعرّف به جون برغر. كجواب محتمل يعتقد لاور أن إعادة كتابة تاريخ الحرب العالمية وعلاقتها بالرأسمالية وكذلك تاريخ الاستعمار، تكمن وراء هذا الاهتمام بالهولوكوست وبذكراه. في فرنسا مثلا يجري الدفاع عن إنجازات الاستعمار منذ عدة سنوات ويدعو مثقفون إلى التخلص من عقدة الذنب التي ولدها الاستعمار تجاه الشعوب التي أخضعت لسيطرته. حتى أن مثقفا يهوديا مثل آلان فنكلكراوت ينتقد الدولة الفرنسية متهما إياها بتقديم تنازلات لشعوب المستعمرات السابقة في برامج التربية والتاريخ. في ألمانيا تم وضع الهولوكوست في إطار الحروب الإتنية التي طالما اندلعت في أوروبا. المجازر التي ارتكبت بحق اليهود أثناء الحرب الثانية كانت بلا شك فاجعة إتنية ما كان يجب أن تحصل. هكذا يتم تقليص مجازر الحرب الثانية إلى مجازر ضد اليهود دون ذكر لعشرات ملايين الضحايا غير اليهود. كذلك تتقلص المجازر ضد اليهود إلى الهولوكوست ويتم بهذه الطريقة نقل الجريمة إلى خارج ألمانيا (بولونيا). كان على أوربا أن تعيد كتابة تاريخها أثناء سعيها إلى الوحدة وأن تتخلص من هذه النقطة السوداء في تاريخها باعترافها بخطئها تجاه اليهود ( ليس صدفة أن يبدأ الحديث عن متحف الهولوكوست عام 1977). من جهة أخرى تحتاج أوروبا الموحدة إلى اليهود في إعادة بناء هويتها ، خاصة بعد أن أصبح هؤلاء خارجها وبعد أن أمضوا مئتي سنة في تغيير لباسهم لكي يصبحوا «مثلنا» . إنهم «آخر» بالنسبة لنا لكنه يشبهنا ونحن نقبله وهذا دليل على تسامح وإنسانوية أوروبا الجديدة. إنهم ليسوا كالآخر المسلم، البربري والمتخلف، الذي تحتاج اليه أوروبا أيضا باعتباره الدليل على حضارتها. لكن أين تلتقي الأيديولوجية الكولونيالية الجديدة مع الصهيونية الحالية؟ قلنا إن الكولونيالية الجديدة تريد طمس كل جرائم الاستعمار ( تجارة العبيد، إبادة الهنود الحمر، الجرائم بحق الصينيين والأفارقة، ملايين السوفيات... الخ). الصهاينة من جهتهم يريدون احتكار الضحية لذلك هم يرفضون بشدة كل محاولة للمقارنة بين الهولوكوست والجرائم الأخرى. وحده الهولوكوست يجسد الشر المطلق. في هجومه على حركة مقاومة العنصرية يقول فنكلكراوت: «معاداة العنصرية ستشكل في القرن ال21 ما شكلته الشيوعية بالنسبة للقرن العشرين: مصدر العنف» (لاور ص 33). ويستطرد قائلا إن الهولوكوست مستمر في أيامنا ممثلا بالأنظمة غير الديموقراطية (اقرأ المعادية للغرب). الديموقراطية تتمثل بالغرب وبإسرائيل. على هذا يصبح كل نقد لهما معاداة للسامية. إذاً، عاد اليهود فأصبحوا جزءا من الغرب، يحق لهم ما يحق له : احتلال الآخر، قصفه، استغلاله... الخ. مثقفو«اليسار» الصهيوني الحالي: رسل الخطاب الكولونيالي الجديد يرى عاموس عوز أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو مشكلة «عدالة مقابل عدالة»، أي أن الفلسطيني والإسرائيلي يتساويان في المعاناة. كلود لانزمان صاحب فيلم «المحرقة»، يرى أن الفلسطينيين لديهم كل شيء : بوليس، أراض مستقلة وحتى جيش ( فتح وغيرها). بالنسبة لكلود لانزمان لا مجال لمقارنة معاناة الفرنسيين أثناء الاحتلال الألماني بوضع الفلسطينيين الحالي» . غروسمان، عوز، يهوشوا، أبرز ممثلي« اليسار» الصهيوني، يحمّلون جميعهم ياسر عرفات مسؤولية فشل المفاوضات مع إسرائيل برغم الوقائع والاعترافات الإسرائيلية وغيرها، التي تؤكد العكس. وهم يسوّقون الفكرة في أوروبا بصفتهم «تقدميين» وممثلي معسكر السلام! يهتم الغربيون بهؤلاء المثقفين بصفتهم رسل الكولونيالية الجديدة في عصر «نهاية التاريخ» . هكذا يكتب يهودي فرنسي (إيلان غريلسامر) في جريدة «لوموند» : إن إسرائيل لا يمكنها أن تكون دولة لكل مواطنيها لأن الديموقراطية والعرب لايتلاءمان، وذلك بدون أن يرتفع أي صوت فرنسي للتنديد بهذه العنصرية (إنه الدور الغربي الذي أعطي لليهود في مواجهة العرب)، يقول لاور، ص. 59 . إن الخطاب الذي يوجهه هؤلاء للوعي الليبرالي الغربي يتلخص بما يلي: (نحن الذين نجونا من المحرقة لا مكان لنا إلا في الشرق الأوسط مع أننا غربيون مثلكم ونحمل نفس قيمكم، نحن نريد السلام). إنه دور غسل الجرائم الاستعمارية وتبرير العنصرية ضد العرب باسم (حق الضحايا). على أن أكثر ما يفضح خطاب هذا «اليسار» الصهيوني هو موقفه من حق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم. يقول عاموس عوز للأوروبيين إن المطالبة بحق العودة للفلسطينيين ليست إلا غطاء للدعوة إلى تدمير إسرائيل وتحويل اليهود إلى سيل من اللاجئين. هذا الخطاب يجد صدى كبيرا في أوروبا لأنه يلعب على وتر الخوف في القارة العجوز من (سيل) المهاجرين واللاجئين غير الأوروبيين، الأفارقة والمسلمين خاصة، وهو خطاب سوف تتبناه الدولة الإسرائيلية وتروج له عبر سفاراتها في العالم ويقبله الوعي الأوروبي باعتباره صادرا عن «معارضة يسارية» . خطاب يسارع مثقفون أوروبيون لترداده والاستشهاد به في كل مناسبة: فنكلكراوت وبرنار هنري ليفي، كلود لانزمان وايلي ويزل من بين آخرين. جدلية الشرق والغرب في الخطاب «اليساري» الصهيوني يستعرض لاور مواقف عاموس عوز في مقابلاته الصحافية وكتبه، خصوصا سيرته الذاتية «قصة حب وظلام» حيث لا ذكر للفلسطينيين (هم عرب فقط) ولا لأي شخصية غير أشكنازية مع أن اليهود الشرقيين يشكلون 60 % من اليهود الإسرائيليين. سيرة ذاتية شديدة النرجسية، يقول لاور، هدفها الإغراء وتقديم الذات كموضوع حب. يقدم عوز أباه وأمه كقارئين نهمين، عالمهما، كما عالم الإسرائيليين، يتمحور حول الغرب: الأنا الأعلى لعوز وأمثاله. والجالية اليهودية لما قبل الحرب العالمية جالية مثقفة اعتقدت (بتفوق أوروبا الأخلاقي) وهو ما يراه لاور مخالفا تماما لواقع تلك الجالية. يروي لاور، مدعما أقواله بشواهد كثيفة، الهجوم الذي يشنه عوز على العلوم الإنسانية لكونها (وضعت الإله والشر جانبا في نظرتها إلى الحياة وألقت باللائمة على المجتمع وحده في كل شيء) ص 105 . وفي عملية تزلف واضحة للألمان يشن عوز هجوما على التعددية الثقافية، تلك التي تسمح، بحسب لاور، للمسلمين في ألمانيا باستعمال لغتهم وممارسة شعائرهم. لقد عادت ألمانيا بعد سقوط النازية وتصالحها مع اليهود لتحتل المرتبة الثقافية الأولى بحسب هذه النظرة. إنها رغبة اليهودي الجديد في (أوروبية نقية، خالصة). هكذا يلتقي مطلب نازي إجرامي مع رغبة «اليساري» الصهيوني الحالي. إذ ممن يجب أن تتخلص أوروبا كي تصبح نقية إذا لم يكن من المسلمين والعرب والأفارقة ؟ يحدثنا عوز بدون حرج عن الفوبيا التي أصابته في مراهقته والتي تجسدت في كابوس متكرر: ( أن أجد نفسي ذات يوم أتكلم اليديش. خوف يشبه تماما الخوف من الشيب والتجاعيد في سن الشيخوخة). الكاتب «اليساري» الآخر الذي يتناوله لاور بالنقد هو أ. ب. يهوشوا الذي أعلن على صفحات «هآرتس» أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 : (أخيرا كانت لنا حرب عادلة) (ص. 127). هو يؤيد الانفصال عن الفلسطينيين (ومنذ اللحظة التي يتم فيها الانسحاب (الإسرائيلي ) لا أريد أن أعرف حتى أسماءهم) ، ( وفي حال أطلقوا النار ضدنا يجب استعمال كامل القوة ضد السكان جميعا). يعلق لاور: هكذا يقتل المثقف. النقطة الأساسية بالنسبة ليهوشوا هي (أن لا يبقى عرب بيننا أو أن يتأسرلوا تماما). ذلك واضح في روايته الأكثر عنصرية في السنوات الأخيرة: «الخطيبة المحررة». يقول لاور إن يهوشوا مهووس بأصوله الشرقية التي يريد التخلص منها بأي ثمن، أي أن يصبح أشكنازيا. هذا هو معنى طرد العرب: إنه طرد شرقيته. (بقدر ما تأخذني الذاكرة بعيدا، كانت رغبتي التامة هي العيش على النمط الإسرائيلي للحياة) ص.142، يعلن يهوشوا، وهذا يعني النمط الأشكنازي المهيمن، أي النمط الغربي. إن هذه الرغبة بالتخلص من الأصول الشرقية هي التي تفسر تعصب اليهود الشرقيين ضد العرب ونجاح الليكود بينهم. إن كره الشرق لا يعني سوى كره الفلسطينيين في هذا الإطار. يقول لاور إن الانقسام بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين ليس قائما على العرق واللون: إن الدولة هي التي مأسست هذا الانقسام. إنه التقسيم الاستعماري القديم ذاته. ثم إنه لا يمكن التفكير حول دولة إسرائيل بدون أن تطرح مسألة الشرق والغرب والحدود بينهما ( وهذه الحدود تمر بين العرب واليهود بشكل واضح وبسيط). لهذا وعد الليكود اليهود الشرقيين بالتخلص من شرقيتهم ومن النخبة الجديدة (الأشكناز) وبناء الدولة الجديدة. هذه الشوفينية هي التي سهلت له تمرير عملية تدمير دولة الرعاية، وهو ما نرى نماذج عنه اليوم في سياسات ساركوزي وغيره في أوروبا عبر هجومهم على المهاجرين. خلاصة خطاب يهوشوا: الشرقي هو الفلسطيني واليهودي جزء من الغرب. لكن هذه الفانتازيا التي يبنيها الإسرائيليون حول غربيتهم ، داخل إسرائيل وخارجها، في الأدب والسينما والايديولوجيا عموما، لا يمكنها إخفاء المأساة : الصهيونية تقول لليهود وللعالم أجمع إن اليهودي لا يمكنه أن يكون سويا إلا في إسرائيل. لكن السوية الفعلية، المقياس لكل سوية بحسب الخطاب الغربي، هي سوية الغرب وقيمه الكونية. هنا تكمن المفارقة/ المأساة التي لا أحد يحب إثارتها في إسرائيل. إلا أن كاتبا مسرحيا يدعى هانوك ليفين فعلها في مسرحية يعتبرها لاور من أهم المسرحيات الإسرائيلية، وهي بعنوان« أولئك الذين يمشون في الظلام». يقول ليفين ما خلاصته : «نحن لسنا غربيين، لا نعيش هناك ولم نكن يوما هناك، نحن نلبس قناعا غربيا، نتبنى معايير غربية وخطابا غربيا. وددنا لو نسكن باريس، لوس أنجلس أو لندن... لكننا نسكن هنا». أثارت هذه المسرحية حقد الجميع في إسرائيل، والغربيون لم يسمعوا بها. لماذا؟ لأن قنوات الاتصال الثقافية والترجمة بين إسرائيل والغرب لم تسمح لها بالعبور كما تفعل بالنسبة للخطاب «اليساري» الصهيوني الذي أصبح المروج الأساسي للخطاب الكولونيالي الجديد. (*) كاتب لبناني مقيم في كندا