الاشتراكية، الأخلاق، الالتزام: ثلاثة مصطلحات أو مفاهيم يتضمنها العنوان أعلاه لابد أنها ستثير الانتباه (إن لم يكن أكثر) في وقت يقر السوسيولوجيون أنفسهم (مع علماء آخرين) بأن عصرا جديدا قد انبثق فارضا - على الأقل - إعادة نظر جذرية في «مذهب» الاشتراكية و«قاعدة» الأخلاق و«موقف» الالتزام. ثم ما هو مبرر وضع المصطلحات/المفاهيم الثلاثة في تركيب واحد يفترض فيه وحدة السياق والمعنى؟ وهل هذه الوحدة حاصلة بالفعل ومتحققة بالتأكيد؟ لنبدأ-أولا- بالاشتراكية والأخلاق: لم تنشأ الاشتراكية مع كارل ماركس (1818 - 1883)، ولكن صاحب كتاب «البيان الشيوعي» و «الرأسمال» هو من سيمنح الفكرة الطوباوية القديمة قاعدتها المادية التاريخية ومضمونها «العلمي». هذا ما سيقر به - على الأقل - الشيوعيون من فريدريك أنجلز...حتى لوي ألثوسير. لكن هذا النزوع المادي الخالص في تقرير النزعة الاشتراكية كمذهب وسلوك أثار منذ البدء نقاشا فلسفيا أخلاقيا خالصا. وهنا لابد من ذكر المحاولات الرائدة والعجيبة التي قام بها بعض الفلاسفة المنعوتين بالكانطيين الجدد في إطار ما يسمى - أيضا - بمدرسة ماربورغ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في ألمانيا تحت شعار «الاشتراكية الأخلاقية» من خلال العودة إلى فلسفة الواجب الأخلاقي لدى إيمانويل كانط. وفي هذا الصدد تحضر أسماء بول ناثورب وفريديريخ لانج و ماكس أدلر. كما أنه في نفس الفترة التاريخية -في فرنسا- أثير نقاش خصب حول القاعدة الأخلاقية للمسألة الاجتماعية تحت شعار «التضامنية» حيث برز سوسيولوجيا اسم إميل دوركايم وفلسفيا اسم ليو بورجوا. لكن التخصيب الحقيقي للنظرية الاجتماعية الماركسية أخلاقيا سيتم في إطار بروز واستواء و تعميق ما يعرف بالنظرية النقدية أو مدرسة فرانكفورت (الجيل الأول: ماكس هوركهايمر، ثيودور أدورنو، هربرت ماركوز، والتر بنيامين - الجيل الثاني: يورغان هابرماس-الجيل الثالث والحالي:أكسل هونيث). وبغض النظر عن التمايزات، بل و«القطائع» والاختلافات بين أجيال النظرية النقدية الثلاثة (الجدل السلبي ونقد العقل الأداتي والإنسان ذو البعد الواحد لدى الجيل الأول؛ نظرية الفعل التواصلي و أخلاق النقاش لدى هابرماس ؛مجتمع الاحتقار والمطالبة بالاعتراف لدى هونيث)، فثمة - على ما يبدو- بؤرة اهتمام مركزية تجذب أفكار سوسيولوجي وفلاسفة أجيال النظرية النقدية الثلاثة متمثلة في قيمة الفكر معتبرة بمدى انغراسه في تجربة التاريخ من جهة، وصيرورة المجتمع والطبيعة التواصلية للعيش البشري المشترك من جهة أخرى، ثم القيمة الأخلاقية للفعل الإنساني باعتبار قدرته على التغيير وانفتاحه على التقدم.إنها نظرية اجتماعية نقدية تواصلية تفضح تشيؤ الإنسان المعاصر وتعيد الاعتبار لقيم الغيرية وحقوق الإنسان والالتزام بمسيرة التاريخ «التقدمية» والانحياز إلى صف التكتلات الاجتماعية الأقل حظا في الثروة والسلطة، ولكن الأكثر اختزانا للطاقة على إنجاز مشروع التقدم والتغيير. وهذا ما يمكن أن ننعته بنوع من «الفلسفة الاجتماعية» حيث أولا تتصالح السياسة مع الأخلاق وتكون الاشتراكية في هذا المنظور ليست هي علم التغيير الجذري المزعوم للتاريخ والمجتمع ولكنها هي الأفق الأمثل الذي يغذي أمل التغيير ويلهم خيال المنخرطين في مساره ومشروعه.إن الاشتراكية هنا هي أخلاق والتزام قبل أن تكون «معرفة ملموسة بالواقع الملموس».وهنا أصل إلى السوسيولوجي الملتزم السي محمد جسوس باعتباره واحدا من هؤلاء الذين جسدوا باقتدار وإخلاص نادرين هذا النموذج الفذ لالتحام السوسيولوجيا العلمية بالفلسفة النقدية، والاشتراكية العلمية بالمثال الأخلاقي في وقت عز فيه العثور على أمثال هذه النماذج في زمن صدق نعت الشاعر في وصفه بأنه «الزمن الظنين».والنتيجة كانت كما يلي: 1- التموقع خارج دائرة ما كان مهيمنا في الستينات والسبعينات بالخصوص ك«فلسفات» و«نظريات» تنعت بما بعد الحداثية وتصب عموما في اتجاه نقد فكر التنوير السلبي وتجاوز الحداثة المزعوم تحت شعار انتهاء زمن السرديات وحلول واقع التشذر وتفكك المركزيات و السلط الخ. وحتى لا يساء فهمي هنا فالأمر لا يتعلق برفض محافظ أو موقف سلبي كسول ولكنه موقف سوسيولوجي وفلسفي نقدي واعٍ ومسؤول يرفض مبدأ العدمية ويقر بواقعة تقدم التاريخ الإنساني مراهنا على قدرة الإنسان في الفعل والتغيير إذا ما توفرت شروط المعرفة اللازمة وتجسدت إرادة التغيير في مثقفين عضويين وحركات اجتماعية متجذرة وواعية. وهذا ما يذكرني بحالة السوسيولوجي والفيلسوف الألماني الفذ يورغان هابرماس صاحب كتاب الخطاب الفلسفي للحداثة ونص «الحداثة مشروع لم يكتمل». 2 - التحفظ إزاء المشاريع الفكرية العربية الكبرى التي تغرق في قضايا التراث والمعاصرة مثلا (نص تهافت الخطاب التراثي :أو لماذا كل هذا الجدل حول التراث - المنشور في كتاب طروحات حول الثقافة واللغة والتعليم) وتقديم مشاريع البحث السوسيولوجي المحدودة التي تعزل وتحاصر قضايا سياسية واجتماعية وثقافية بعينها (قضايا التنمية والديمقراطية والتنشئة الاجتماعية مثلا) متوسلة مناهج الملاحظة والاستقراء بدون أن يعني ذلك السقوط في تجريبية وعلموية فظتين وفقيرتين معرفيا وفلسفيا. إن الأمر يتعلق هنا - في تقديري - بالنزوع نحو إقرار نوع من الفلسفة الاجتماعية أو المجتمعية بالمغرب. وهذا جانب إبداعي لافت في مسار السي محمد جسوس يحتاج لوحده إلى يوم دراسي كامل. وعليه، فسأكتفي بالإشارة إلى ما يلي: عموما تتحد عناصر ما يمكن أن نسميه بالفلسفة الاجتماعية أو المجتمعية في أربعة [أحيل هنا على كتاب نشر مؤخرا في فرنسا بعنوان Manifeste pour une philosophie sociale ل Franck Fischbach]: انغراس التفكير الفلسفي في صيرورة التاريخ الإنساني العام والمجتمعات البشرية الخاصة وليس برجعاجيته النظرية المجردة المزعومة- تمايز السياسي الخالص (الدولة) عن الاجتماعي المركب (المجتمع المدني) - بروز التحليل السوسيولوجي باعتباره تشخيصا دقيقا وعلاجيا لحالات الباثولوجيا الاجتماعية أو النمو المهدور على حد تعبير أكسل هونيث - الارتباط بقوى اجتماعية ناهضة ومنفتحة تاريخيا على مشروع التقدم والتغيير. وبالرجوع إلى نص العرض المنشور في كتاب طروحات حول المسألة الاجتماعية بعنوان: غياب المسألة الاجتماعية والمجتمعية بالمغرب، نحس بالوعي الحاد بجدة الطرح لهذه المسألة في المغرب من طرف الأستاذ جسوس (ألقي العرض سنة 1982): فالمسألة الاجتماعية هنا لا تتماهى مع مجرد المنطق السياسي محصورا في احتكار الممارسة الشرعية للعنف، كما أنها (المسألة الاجتماعية) ليست هي المسألة الاقتصادية مختزلة في مجرد صراع طبقي حقيقي أو مزعوم ولا هي متطابقة مع المسألة الثقافية باعتبارها ما يحدد السلوك وينمطه.إن ثمة - فيما وراء السياسة والاقتصاد والثقافة - ما يقوم ويوجد كمحددات مجتمعية مرتبطة - من جهة - بما بعبر عنه الأستاذ جسوس ب«علاقات بشرية مسترسلة ومنظمة على الصعيد الجماعي» وتتجسد - من جهة أخرى - فيما يسمى ب«النسق المجتمعي».وعليه ينقد السوسيولوجي الملتزم والمستنير «الحركات التقدمية في العالم العربي و المغرب» على أساس «طغيان المنطق السياسي» و«المنطق الطبقوي» و«المواقف الإنشائية والمبدئية» منبها إلى أخطار سيادة «الإرادية، الذاتية، التجريد». والخلاصة هي نقد ذاتي مجتمعي وحزبي ينطلق من مقدمات (= طغيان ما سبق) ليصل إلى نتائج تتمثل في«شيوع بعض السلوكات الغريبة، ومن جملتها: تقوية آليات التغليف والتضليل والسلفية، تمتين مكانة الجماعات الخفية ودورها في اتخاذ القرارات الحاسمة من جهة، وتضافر جهود مختلف الأطراف لحماية تلك التركيبات الخفية أو الموازية، والاستمرارية في ضمان حصانته، ومناعة أعمالها وتراتباتها ومعاييرها الداخلية». فمن ينكر أن هذا الوضع هو ما آل إليه حال منظمات وتنظيمات تقدمية مغربية بعينها؟ 3 - إن مسألة الاشتراكية والأخلاق - موضوع هذا العرض الأساسي- ليست هي منطق الوعظ والإرشاد يلجأ إليه مناضل مؤمن مشبع بقيم عقيدة أو إيديولوجيا ما. كما أنها ليست نصوصا تكتب ليستظهرها الأتباع والمريدون. إن النص الأساسي الذي كتبه السي محمد جسوس هو مساره المهني والسياسي والإنساني كسوسيولوجي ملتزم.وما طبع هذا المسار - على ما يبدو- منظوران: الأول: الإيمان بالفكر الاشتراكي الديمقراطي كمآل لما آلت إليه تجربة التاريخ الإنساني العامة والمشتركة متجسدة راهنا في قيم الحرية والعقلانية والتقدم أو ما يمكن التعبير عنه بالمشترك الإنساني العام.المنظور الثاني: ضرورة ارتباط النظرية الاشتراكية الخاصة (في مجال الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية) بممارسة سلوكية أخلاقية تتجاوز نطاق ما هو مجرد سياسوي واقتصادوي وثقافوي للالتحام بمثال الإنسان العام والمتفرد في نفس الوقت.إن واحدا من الأمثلة الشعبية التي كان يكررها الأستاذ جسوس باستمرار هو «أولاد عبد الواحد كلهم واحد».وأكاد أقول جازما بأن هم السي محمد جسوس طيلة مساره المهني والسياسي كان ولا يزال هو ألا يكون بالضبط واحدا من أولاد عبد الواحد هؤلاء...