كان هادئا حتى كأنه غير موجود... لا تسمع له صوتا ولا حسا ولا حتى نفسا. كان دوما منحنيا على طاولته، منكبا على أوراقه، ممسكا بريشته التي هي في الواقع روحه، كيانه بل سلاحه المشاغب ضد زملائه وأصدقائه في الجريدة. كان نحيفا طويلا كحنش لا يخرج من جحره إلا إذا استفز، مسالما ومبتسما دوما رغم هزالة الأجر وضنك العيش وآلام مرض الربو المزمن الذي كان يقطع أنفاسه. كان طيبا، مرحا، محبا للنكتة، حاضر البديهة دوما. والويل لمن استفزه أو حاول أن يستعرض عضلاته أمامه أو حاول أن يعبث معه مستعملا قوته حتى ولو مازحا كما كان يحلو لزملاؤه وأصدقاؤه في الجريدة أن يفعلوا معه لاستفزازه من أجل إخراجه من صمته وهدوئه... كان محبوبا لدى الجميع... كان أصدقاؤه نور الدين سعد الله وعبد القادر لفلافل من القسم التقني (وهما طويلا القامة، ضخما الجثة)، والخطاط محمد فهمي وحسن نجمي وعبد الله قانية في هيأة التحرير يمازحونه باستعراض قوتهم أو بالاستخفاف منه والتقليل من أهميه عمله ويحاولون استفزازه ليجعلوه يعلق على تصرفاتهم تلك بتعليقاته الفكاهية الساخرة واللاذعة، فكان يحذر الواحد منهم وإن لم يرعو، يهدده. وعندما تبدأ وتيرة هدوئه تخف يقول لغريمه بصوته الخافت «أجسام البغال وعقول العصافير»، ويزداد استفزاز الغريم، فيهدده حمودة محذرا إياه: «اذهب أو ستندم»!... ومع ذلك يستمر الغريم في استفزازه له، فالكل يعرف، بل متأكد من تخلق حمودة وطيبة روحه وأيضا ضعف جسده... فهو مسالم لم نره يوما يسب أحدا أو يتعارك مع أحد مهما حدث... وعندما يتمادى الغريم ويتعب منه حمودة، يعود لصمته وسكونه، سكون ماقبل العاصفة، يصم أذنيه، يطوي ظهره منكبا على طاولته كتلميذ في قاعة الامتحان يخشى أن يتلصص زميله على أوراقه، يمسك ريشته التي تطاوعه ببراعة وروعة فائقة ويخط على أوراقه الصغيرة خطوطا سوداء، وفجأة يرفع رأسه وقد علت وجهه ابتسامة شامتة متشفية وماكرة ،ويدفع برسمه بأصابعه الطويلة والرفيعة نحو غريمه الجالس قبالته في الطرف الآخر من طاولته قائلا: «اذهب من أمامي فورا وإلا أريت صورتك لنجاة!... يحمر وجه غريمه، يرتبك، يرتعد غضبا وخجلا وخوفا من الفضيحة وهو ينقل نظراته المرتبكة خلسة بيني وبين حمودة... وقبل أن يمسك بالرسم، يكون حمودة قد سحبه في لمح البصر قبل أن يفيق غريمه من الصدمة. ينقطع صوت الغريم وتنقطع أنفاسه وتنتفخ أوداجه، لكنه يكظم غيضه ويبدأ في التوسل والتودد صاغرا أمام جبروت حمودة! وينتشي حمودة كثيرا وطويلا لموقف غريمه ويقهقه عاليا وطويلا وقد امتد بجسده إلى الخلف منتشيا ومتكئا على مرفقه الأيمن ملوحا بريشته..