ما الذي يجب تعلمه أولا حتى يتم فيما بعد تملك معارف أخرى أو بناء كفاءات؟ يستند هذا السؤال، الوجيه من حيث ظاهره، على مسلمة مفادها أن المعرفة تُبنى طبقة طبقة، وعليه وجب البدء بأسس البناء، تضاف إليه الطوابق بعد ذلك. التعلمات الأولية ألا تزال هذه الرؤية، المنطقية جدا، تقبل الدفاع عنها؟ إن المناهج ذات النمط الدوري تنأى عن هذه الرؤية متأهبة للرجوع، في مناسبات متكررة، إلى نفس المفاهيم، على أمل توسيعها وتعميقها. تهتز البديهيات: هل من الضروري حقا تعلم الحروف والمقاطع اللفظية قبل تعلم القراءة؟ هل يجب حقا معرفة القراءة قبل تعلم الكتابة؟ هل لبناء العدد أسبقية مطلقة على تعلم العمليات الرياضية؟ هل من الضروري تملك اللغة« الأم» تملكا جيدا قبل الشروع في تعلم لغة أجنبية؟ ليس هناك اليوم أجوبة متفق عليها ونهائية عن هذه الأسئلة. والحق أن الأمر لايتعلق بتعويض نظام مكان آخر، وإنما القبول، في حدود معينة، بكون المعرفة تبني في الفوضى أو على الأقل تتّبع مسارات أكثر تعقيدا مما هو متوقع والتي تختلف من تلميذ لآخر. تتم العودة أيضا إلى بديهيات أخرى من قبيل أن« على النظرية أن تسبق الممارسة ». إن التعلم بالمشكلة لا يقبل الفكرة القائلة بضرورة مراكمة المصادر( من معارف، ومؤهلات ومواقف) قبل التفكير في تعلم طريقة استعمالها لحل المشاكل. إننا نرى، على العكس من ذلك، أن المشكل له أسبقية الوجود، وهو الذي يوجه البحث عن مصادر تسمح بحله. إنها واحدة من الأسباب التي أدت إلى تفضيل الأسلاك التعلّمية المتعددة السنوات وخاصة منها تلك التي تستمر ثلاث أو أربع سنوات. هذا التمديد في أمكنة-أزمنة التكوين يقطع مع التصور التايلوري للمدرسة، أي مع التقسيم الرأسي لعمل يكون موضوع سلسلة تركيبية. إن الأسلاك الطويلة تسمح، بطريقة مثالية، بتدبير التطورات الفردية والتي لم يعد من الضروري حصرها في سلسلة صارمة من الخطوات النموذجية لنمو المعارف. هذا يدعو إلى جعل المسالك تحترم الفردانية، و يدعو إلى تعليمٍ استراتيجي (تارديف، 1992) من شأنه، عوض أن يجعل كل طفل على حدة على سكة وحيدة، أن يتساءل عن المرحلة القادمة الخاصة به، التي تساير مستواه، وتحصيلاته، وطريقته في التعلم. من البديهي أن يكون هذا صعبا جدا ويمكن تفهم محاولة الأساتذة للعودة إلى البرامج السنوية، ينتقّل التي بموجبها عند نهاية السنة تلاميذُ من المفترض أن يكونوا قد اتبعوا نفس المسار، و تملكوا بالتالي نفس الشروط المسبقة لمواجهة المرحلة المقبلة. إن الرؤية المؤيدة للبرنامج كصرح مشيد من طبقات لها إيجابيات لا تنكر، إلا أنها لا تطابق واقع مسارات التكوين. يستمر هذا النموذج طويلا لكونه يُطمْئِن، ولكونه لا يهدد لا التوجه الفرداني للمدرسين( إذ يتكلف كل واحد بطابق واحد ووحيد فقط)، ولا إرادة الإدارة المدرسية في المراقبة، التي تكون مرتاحة مع البرامج السنوية أكثر منها مع أهداف نهاية السلك. فإظهار أن المدرسة شغالة هو أهم بكثير من جعلها فعالة. طبيعي أن يكون تقسيم منهاج التمدرس الإجباري إلى مراحل كبيرة أمرا معقولا، يتمثل في أسلاك تعليمية تمتد من سنتين إلى أربع سنوات. وقد أصبح صعبا، وعبثيا ودون جدوى تحديد مراحل قصيرة جدا وتحويلها إلى معايير، ومسالك إجبارية. لا شيء يمنع من أن يقترح على الأساتذة بعض أشكال التطور النموذجية إذا حافظوا على حق الابتعاد عنه بحكمة. القاعدة[ التربوية] لم يعد التفكير إذن منصبا على التمفصلات الداخلية للمنهاج، إنما على المكتسبات الضرورية التي يجب أن يمتلكها كل واحد ساعة مغادرته المدرسة للعيش بشكل لائق في مجتمع مركب، أو ما يسمى أحيانا ب» الأقل ما يمكن أن يحصل عليه الفرد من المكون الثقافي في الساعة «Smic culturel. دول عديدة تتحدث عن التربية الأساس أو التربية الأساسية. وفكرة القاعدة[التربوية] المشتركة تسير في نفس المنحى. إنها تحتوي على» ما لا يجب على أحد أن يجهله«، الهبة الأساسية للعيش. لكن العيش على أية حال: هل بشكل حسن، أم عادي، أم بشكل كريم؟ نرى في الحين أن هذه الفكرة البسيطة تصبح معقدة حالما يتعلق الأمر بتقديم محتوى للقاعدة[التربوية]. هل نرغب في تكوين شخص؟ أم مؤمن؟ أم مواطن؟ أم عامل؟ أم مستهلك؟ وما هو المعيار الخاص بكل وجه من هذه الوجوه؟ ما هو الفرق الدقيق، مثلا، بين إنسان» اجتماعي بشكل مفرط« ( الأفضل بين الجميع ) وبين أناني، دون الأخذ بعين الاعتبار تضامنه ولا مسؤوليته تجاه المجتمع؟ من الواضح أن الثقافة الجمعية هي شرط وجود جماعة. لكن ما الذي يجب أن يكون جمعيا؟ هل هي اللغة؟ فدول عديدة تعمل على تجميع مجتمعات لغوية مختلفة. هل هي قيم جماعية؟ هل هي الديمقراطية، أم حقوق الإنسان، أم الإيكولوجية؟ كيف يمكن تحديد ما هو مشترك وما يرتبط بالحق في التميز؟ إذا كانت تتمثل في معارف مشتركة، فما هي؟ هل هو التاريخ الوطني؟ أم الجغرافية الوطنية؟ المؤسسات الوطنية؟ هل لا يزال هذا ممكنا في زمن العولمة؟ إن الجواب، كما نرى، سياسي بشكل بارز ويروج صورة عن النظام الاجتماعي و الكائن الإنساني. إن القاعدة [التربوية] المشتركة بالتعريف هي اتفاق سياسي، ناتج عن علاقة قوة، تحقق تاريخيا واجتماعيا. لكن ما هي العناصر التي تشترك فيها حقا، علما أنها ليست سوى النزر القليل الذي لا تمح الفوارق ولا أشكال عدم المساواة؟ ما هو المشترك بين شخص لا يعرف سوى القراءة وشخص يعرف أشياء عديدة أخرى؟ باختصار،إن فكرة القاعدة[التربوية] ذاتها تطرح مشاكل عدة، تتفاقم أكثر عند تعريفها. إلا أنها فكرة مثيرة للاهتمام لكونها أقل طموحا وأكثر واقعية من فكرة تكافؤ الحظوظ. فالمجتمع الذي يحدد قاعدة[تربوية] مجتمع لا يضمن تكافؤ الفرص، ولا تكافؤ التحصيل، ولكنه يقدم وعدا. وكلما كان هذا الوعد محددا، كلما التزم المجتمع بالتمسك به، والتحقق فيما إذا كان كل واحد قد اكتسب، على الأقل، المعارف والكفاءات التي تشكل القاعدة[التربوية]، و، إذا لم تكن هذه هي الحال، إدخال الأنظمة الملائمة. والحال أن الأمر غير ذلك اليوم، وقد برهنت على ذلك البحوث العالمية، خاصة المتعلقة بالقراءة، والتربية العلمية واللغات. إن القاعدة[التربوية] تحدد أهداف التربية الأساس. منطوقها لا ينبئ مسبقا بالمكتسبات الحقيقية للتلاميذ عند نهاية المنهاج. فما يسمى هدفا تكوينيا هو رؤية، ونية تحقيقها لا يكون أمرا يقينيا ولا متساويا بين المدارس والتلاميذ. وحده البحث، الذي يجب أن يرافق كل مجموعة، كفيل بأن يثبت درجة تحقق الأهداف. وبما أن التقييم المدرسي العادي، المعياري منه والمقارن، لا يخبران بالشيء الكثير عن المكتسبات الحقيقية للتلاميذ، فمن الضروري خلق وسائل أخرى، تعمل على تقييم المكتسبات الدائمة بطريقة موحدة ومتلائمة مع الأهداف. فإن لم تكن القاعدة[التربوية] مرتبطة بتقييم معيَّر وموحَّد لكل تلميذ، ولكل هدف، فليست ذات مصداقية. الدمج بين القاعدة[التربوية] والكفاءة هو مصدر خلط مفاهيمي. فكل تعلم، كل تطور إنساني من شأنه أن يصبح هدفا من أهداف التكوين، وأن يصبح من ثمة جزءا من القاعدة[التربوية]. قد لا ينحصر هدف المدرسة في تنمية الكفاءات، وإنما أيضا تنمية المعارف، والقدرات، والقيم، والمواقف، أو تنمية الهوية، والعلاقة مع الذات، ومع العالم، ومع المعرفة، ومع المؤسسات، أو تنمية وضعية( تأملية، نقدية...)، ومميزات الشخصية أو الذكاء. فالمناهج التي ترجع كل غايات التربية المدرسية إلى الكفاءات تقوم إذن على رؤية تبسيطية للكائن الإنساني وللغايات التربوية وبالمقابل فمن الملائم إيلاء أهمية كبرى للكفاءات، مادامت متصلة بشكل مباشر بالممارسات الاجتماعية، وبالتالي بحياة الناس. إن منطق القاعدة[التربوية] يقوم على مساءلة التعلمات الأولية. هل التأكيد على قاعدة[التربوية] المشتركة تجعل التعلمات الأولية موضع تساءل؟ ربما. فالتمدرس قد شيِّد من عالٍ، وحُددت وثيرة الدراسة على مقاس هؤلاء القادرين على الذهاب حتى الجامعة. وعليه فإن الدخول إلى الحياة يتم فيما بين 23-25 سنة، ولا داعي بالتالي للاستعجال، حيث إن كل الأقسام أقسامٌ »تحضيرية «، تعتمد على مراكمة المعارف عوض استعمالها. نعلم أن زمن الكفاءات سيأتي بالنسبة لنخبة المستقبل، ونقصد كفاءات المهندس، والطبيب، والمحامي... إذا كان هذا المنطق مهزوزا إلى حد ما، وإذا رغبنا حقا أن تتحقق أهداف القاعدة[التربوية] بالنسبة للجميع، بما فيهم وبالأساس أولئك الذين سيغادرون النظام في حينه، فإن العد العكسي سيصبح بالفعل أكثر تشددا. سيصبح من الملائم الإلحاح على المواطنة، وتدريس الحقوق، والاقتصاد ابتداءا من المرحلة الإعدادية، وتهيئ الشباب للحياة التي تنتظرهم. إن هذا لا يسيء بالتأكيد لتعلم القراءة المبكر. أما بالنسبة للغات الأجنبية، فلا يزال النقاش مفتوحا. قد يكون الاعتراض على الغلبة المعطاة لبعض التخصصات التقليدية وداخل هاته ذاتها هو الذي أدى بالتهيؤ للحياة أن يتغلب حين الإعداد التحضيري للدراسات الطويلة... للوصول إلى هذه النتيجة، كان من اللازم أن يرتبط مفهوم الكفاءة بالممارسات الاجتماعية وأن تصبح القاعدة[التربوية] أولوية. يمكننا التكهن بصراعات المصالح وأن نشك في كون علاقة القوة ستكون مواتية. وفي هذه الحالة، لن يغير إدخال القاعدة[التربوية] ولا الكفاءات بشكل كبير المنهاج، ولا حتى التعلمات الأولية. *Apprentissages premiers ou éducation fondamentale ? Philippe Perrenoud, Les cahiers pédagogiques , n°479, février 2010,pp :9-10