قبل أسابيع، حزم متاعه استعدادا للسفر الأخير؛ لم يتمكن من ردع المرض الذي كان في جسمه أقوى وأكثر ضخبا. قبل أسابيع، استيقظت، هنا وهناك، وشوشات عن انطفائه الوشيك أو المحقق. وبين نفي وإثبات، كانت ورقة العمر تنتفض وتتشنج، إلى أن جاء النعي «توفي مزيان بلفقيه، مستشار صاحب الجلالة، بمستشفى الشيخ زايد بالرباط. وستجري مراسم تشييع الجنازة بمدينة تاوريرت»، فطويت الصفحة التي لم تكن لهوا وتمثيلا، بل كانت زمنا كثيفا توقف في (بورتريه) اصطبغ بالكثير من الألوان. لم يكن مزيان بلفقيه من هؤلاء الذين يغمضون عيونهم أمام الضوء، ولم يتعامل مع البوارق ككتلة حروق، بل كان صيادا يطلق عليه البعض «صانع النخب». فيما يغدق عليه بعض المقربين ألقابا من قبيل: «صاحب خارطة الطريق إلى السلطة»، «الأمين العام لحزب التقنوقراط»، «مسمار مدرسة القناطر والبولتكنيك في القصر»، «مدير مكتب تشغيل رجال السلطة»، «قائد الأقلية الاستراتيجية».إلخ. ميزاته ، كما ينطق بها الذين عاشروه أهمها: الوفاء، في أوساط لا يكون الوفاء دائما هو مثالها،رجل لا يتباهى، ولا يحب صناعة الاضواء في المطاعم وفي الفضاءات العامة.يسأل باستمرار ليعرف كما لو أنه احتفظ في ذاته العميقة بعطش البدايات في نجود تاوريرت. كان هذا الرجل يتقدم، في الظل، بهدوء، وكان يعي أن القوة لا يصنعها إلا الغلو في تنخيب «أعضاء جمعية خريجي القناطر والبولتكنيك والسونطرال الفرنسية، وزرعهم في أغلب المناصب الحساسة، وكان يعي أن الاحتكام إلى «التكوين» ثم «الكفاءة» ثم «الولاء للعرش» هي العربات الذي تقود إلى بوابات القصر.. ينحدر عبد العزيز مزيان بلفقيه من تاوريرت التي تقع في الشمال الشرقي، حيث ولد بها سنة 1944. ولما كانت تاوريرت تعني بالأمازيغية «التل» أو «الكدية»، فإن الطفل، منذ سنواته الأولى كان يتطلع إلى اعتلاء المرتفعات وتسلق المدارج ليكون ما عليه هو الآن. لم يكن دائما متسلقا جيدا، بل كان متسلقا عنيدا. لم يصل مزيان بلفقيه إلى القمة ممتطيا مصعدا، لم ترفعه دسيسة أو حبل مدلى بعناية فائقة. لم يدخل من النافذة، بل من باب الديبلومات والشهادات والعمل المضني، حيث حصل على دبلوم مهندس من المعهد الوطني للعلوم التطبيقية بليون ودبلوم الدراسات العليا الخاصة بتدبيرالمشاريع من جامعة ليل، إضافة إلى دبلوم «المدرسة الوطنية للقناطر والطرق بباريس» التي تحولت، الآن (وبفضله الشامل) إلى أكبر مشتل للتنخيب في المغرب. ولأن معادلة «التنخيب» في المغرب باتت تتطلب تغييرا في بنيتها (خاصة بعد فشل أغلب خريجي الإدارة الترابية في تدبير المؤسسات العمومية والولايات والعمالات)، ولأن مزيان بلفقيه لا يتقن سوى المعادلات الرياضية التي تحتاج، كي تتحقق، إلى مهندسي قناطر والبولتكنيك والسونطرال، فإن الملك الراحل الحسن الثاني المنهك، آنذاك، بتقارير صندوق النقد الدولي ولعبة المخزن وعناد المعارضة، لم يتردد في ربط الاتصال بمزيان بلفقيه الذي يتمتع بقدرة هائلة على وضع الخطط والاستراتيجيات واقتراح المنفذين واستشراف مؤهلاتهم وقدرتهم على الاندماج والتضامن وإخراج «الأنياب» في مواجهة الخصوم. ولنا في قصة كريم غلاب مع «بوعمر تغوان»، الذي حاول تكسير هيمنة «المدرسة الفرنسية» على وزارة التجهيز، خير مثال! كان مزيان بلفقيه، قبل أن يصبح مستشارا للملك الحسن الثاني سنة 1998، قد سلخ وراءه سنوات طويلة (30 سنة) من العمل.. فقد بدأ موظفا سنة 1968، ولم يبدأ في الترقي الحقيقي إلا سنة 1983 حيث عين كاتبا عاما بوزارة الأشغال العامة والتكوين المهني، قبل أن يحمل لأول مرة حقيبة وزارة الفلاحة والإصلاح الزراعي ما بين 1992 و1993، ليعود من جديد عام 1995 إلى وزارة الأشغال العمومية التي ارتبط اسمه بها، ثم عينه الملك وزيرا للفلاحة والتجهيز والبيئة إلى غاية مارس 1998 (تنصيب حكومة ذ. عبد الرحمن اليوسفي)، ثم مستشارا للملك في أبريل من نفس السنة، ومنذاك لم ينس «أبناءه في وزارة التجهيز»، حيث لجأ إليهم ليغرف منهم أثناء تعيين الوزراء والولاة والعمال والكتاب العامين ومدراء المكاتب الوطنية ومدراء المؤسسات العمومية الكبرى والأبناك والسفراء.. وإذا كان مزيان بلفقيه قد حرص على مكافأة المهندسين أعضاء «ودادية مهندسي القناطر والبولتكنيك الفرنسية»، فإن أول اختبار حقيقي كان قد واجهه الرجل، هو الإشراف على صياغة الميثاق الوطني للتربية والتعليم الذي أثبتت الأيام، رغم قوته كنص، أنه ضرب من «اليوطوبيا»، ذلك أن مزيان بلفقيه المهزوم في هذا الملف (بتقرير أممي لا غبار عليه) قد أعلن، بعدما عاين ارتخاء الملف، عن استعداده للوقوف أمام محكمة عليا إذا ثبت أنه هو المسؤول، حيث صرح لإحدى اليوميات الوطنية: «لست وحدي مسؤولا عن هذا الملف، فهناك وزراء تعاقبوا على منصب وزارة التعليم، وهم يتحملون أيضا المسؤولية››». ليس هذا فحسب، فمزيان بلفقيه كان أيضا جسرا لإنهاء الخلاف التاريخي مع الثقافة الأمازيغية، كما ترأس مؤسسة محمد السادس للأعمال الاجتماعية لرجال التربية والتكوين، وأيضا «المجلس الأعلى للتعليم» إلى جانب إشرافه على «تقرير الخمسينية». فهو- كما نعته بعضهم- العراب والأب والحكيم ومفرخة التقنوقراط الذين أصبحوا، يشكلون بفضله أقوى حزب مؤثر في المغرب! لمزيان بلفقيه أصدقاؤه الذين يعتبرونه رجلا نظيفا رغم كيد الكائدين. ذلك أن لعبة الحكم والقرب من القصر جرت عليه، ظلما وعدوانا، عددا من الانتقادات. فلا يمكن أن يُتهم الرجل بكل العورات الديمقراطية. فهو ليس مسؤولا عن بنية النظام، ولا عن أساليب التنخيب. ليس مسؤولا عن طبقات من الترسبات المخزنية المتوارثة. ليس مسؤولا عن أولوية «الولاء والدم والمصاهرة والقرابة العائلية» على «الأهلية والكفاءة». ويضيفون أن الرجل، رغم كل ما يقال حوله، استطاع، أن يجمع حوله فريق عمل متكامل ونظيف السجل واليد واللسان، وأنه أحدث ثورة في مفهوم السلطة والتدبير، وأنه نجح في إبعاد بعض رجال الداخلية الذين تربوا على خدمة الذات أولا وأخيرا. ولمزيان بلفقيه خصومه الذين يتهمونه بأنه عراب أهم لوبي يتحكم في أضخم القرارات والمشاريع بالبلاد، دون أن تكون تلك القرارات محط نقاش سياسي عمومي. كما يتهمونه بكونه مُبطل «المنافسة السياسية» والمشجع الأول على هجرة العقول المغربية، والمسؤول الأول عن العزوف السياسي لدى الكوادر، وسائق الشاحنة التي تقود الكفاءات (من غير المنتسبين إلى المدرسة الفرنسية) إلى مطرح اليأس. ورغم ذلك، لقد اختار الرجل بكل شجاعة التفاعل مع قوس السلطة، ولم يتعثر مطلقا بالخط النغمي الذي ابتدعه الانتهازيون. لم يمش على انفراد، وكان، مهما تغيرت الأزمنة والأحكام، فرصة ملائمة للانطلاق. مزيان بلفقيه هو أيضا «المخرج» الذي لا يعرف أحد أنه استعمل السينما من أجل الاقناع. أحد اصدقائه يحكي ما يلي:«عمل الفقيد على تصوير فيلم عن الشح في المياه وفي الحاجيات الاساسية وكان يعرضه على الشركاء الاجانب، فأبكى سفير كندا»، وقد علق وقتها رحمه الله « اصبح همي هو أن يتوقف السفير عن البكاء».