تلك الرائحة كانت تلك الرائحة بشائر الأرض الأولى التي شممت نسيم طلعتها من المرأة ونحن نستقل معا سيارة الأجرة الصغيرة ذاتها: (هي) تضع بجانب مقعدها الخلفي أكواما من البضائع المتنوعة التي ابتاعتها،بلا شك ،من قيسارية الحفاري المليئة بمحال بيع الأثواب بكل أصنافها، والذهب بكل صيغ صنعه، وأشكال صوره، وضروب أحجامه، وما شابه ذلك من متطلبات الكساء والغطاء، وقطع الحلي، وأغراض البيت، ولوازم السفر.و(أنا) احمل بين يدي رزمانة الكتب التي يطل برأسه منها مؤلف فيلسوف العرب الكندي الموسوم»مؤلفات الكندي الموسيقية» الذي غادرت على إيقاع مقاماته حي الأحباس العامر بمكتباته النفيسة ، والشهير بأسلوب بنائه وطراز معماره، وأناقة صناعته التقليدية.حي لايكاد يبعد عن القيسارية المذكورة إلا بضع أمتار معدودة. تعرفت إلى السيدة من كيفية النطق ومخارج الحروف، ومن نبرة الصوت واللكنة التي تلف القول في كلامها.سيدة تميل إلى نهاية الأربعين من العمر.تضع فوق شعرها قطعة خفيفة من حرير برتقالي.قالت ، بعد أن اطمأنت إلينا، إنها من مدينة وهرانبالجزائر، مدينة الشواطيء الساحرة، التي طالما تغنى بها الشعراء، وشدا بها المطربون، تزور المغرب كلما سنحت الظروف لها بالسفر.حكت عن الجزائر والمغرب، وعن بعض الوقائع والمغربات التي تحدث لها أثناء الترحال والتجوال. كانت تبدو مرحة جذلى؛ متأدبة، متكيسة؛ لايعكر صفو مزاجها ضيم ما إلا حينما تتذكر حرقة الكبد الدفينة ومزار الديار التي شط بها نوى الحبيب. تتنفس الصعداء. تتنهد عميقا بين الفينة والأخرى. تحبس أنفاسها أحيانا. لاأعرف بالضبط ما بها. تسترجع لياقتها . تسترسل في الحديث وكأن شيئا لم يكن .هذه طبيعتها. وهرانية لا ترى ظلها. رقيقة الحال .تنتشي ، بعذوبة ،مسار الحياة وإن زاغ عن مدارجه ،وعثرات الزمان وإن قسا بنوائبه ،وصروف الدهر وإن جثا بكلكله. تصمت هنيهة ثم تعيد كرة الحديث .بين بياض الصمت وتصويت الكلمات ، تجيب ، بثبات مطلق ،عن وهم أسئلتي وغموض استفساراتي بعد أن أسررت لها بأني ذاهب في رحلة علمية إلى جامعة معسكر. ابتسمت بملء شفتيها بمجرد نطقي بالكلمة الأخيرة وأردفت على التو: معسكر معروفة بزراعة البطاطا ، وطبع الله تلك البلدة بسماع النكت التي تحكى عن أهلها .لم تنتظر مني تعليقا أو حاشية على بيان كلمها. إذ كنت سأخبرها ، مثلا، بأنه بحسب علمي فإن الشخص من كثرة الفهم والاستيعاب يسمونه «فهيما» ، وإذا كان من نفحة سيدي الشارف يلقبونه « شويرفا « تحبيبا وتليينا. لم تمهلني أتمم ما نويت قوله ، واستمرت في الشرح والاستيضاح. أدارت الوصف على مدار القول بما يعزل روح السخرية ويثير شجو الضحك الذي قد تسمع قهقهاته من خارج زجاج السيارة.لم تعر الاهتمام لسائق الطاكسي الشاب الذي استأنس بحلاوة نكتها، وأطلقت للسانها عنان البوح الهزلي والتفكه المحلي وكأنها في جلسة حميمة في غمرة الأصدقاء والأحباب.أمطرت ذاكرتي بعشرات النكت التي تشير إلى عسرالفهم ، وقلة العقل، واعتواص الذكاء، والدهشة الفطرية من مستحدثات العصر التقنية.أعراض تحملها على نول موضوعات شتى، في مواقف خاصة، وسياقات تواصلية مترعة بقصدية المفارقة ، وسوء التقدير، والتباس الحس الإدراكي للأشياء. في هذه الجلبة من الحكي، وفورة نشوة السرد، فاتني أن أهمس لسيدتي الوهرانية بأن مثل هذا الصنيع من التنكيت متداول في البلدان بأسرها،ارتقت درجة حضارتها أم انحطت، علا شأنها أم قل.إنه يشبه، إلى حد قريب، ما يرويه الوجدي عن البركاني أو العكس، والعبدي عن الدكالي؛ أو ما تراكم من أمثال ونكت متبادلة بين المراكشي والفاسي؛ أو ما ألف عبر التاريخ الثقافي والاجتماعي عن قبيلة بني مسكين وبطونها من غمز ولمز يفيد ضحالة عقول القوم فيهم، بالرغم من ولائهم الدائم للمخزن، كما يسجل شارل دو فوكو، وضد أنف ما كتبته صديقتي الشاعرة، وهي واحدة من شوكتهم، من أسفار وصحاح أعمت بها رباب حنجرتها هباء؛ أو ما يسود من قصص الهزء ومشاهد المسخرة السوداء بين الفرنجة والبلاجكة الخ ... فاتني فحوى الحكاية هذا بعد أن أشرفت رحلتنا القصيرة على نهايتها وسط مدينة الدارالبيضاء: توجهت (هي) إلى الفندق الذي يأويها ، وذهبت (أنا) إلى حال سبيلي لاحتساء قهوة الزوال في مكاني المألوف:إكسيلسيور وأنا أردد في نفسي: الغيث أوله قطر.هذه الرائحة من ذينك الشجر.