تجريد السياسة من معناها هو سياسة. شحن الخطاب السياسي من بطاريات سباب «راس الدرب» هو أيضا سياسة. مقاربة حراكنا السياسي بمقاييس الصراع السياسي في الغرب أيضا هو سياسة . التحريض ضد ممارسة السياسة هو سياسة في أعلى درجات الشطارة. ممارسة السياسة ببوصلة «الآنا» المتقدة خلف سكون لغة «النحن» هي السياسة التي لا يرف لها جفن. تُمارس السياسة في بلادنا بألف صيغة و تُقال بألف جملة ، غير أن منسوب السياسة الناصعة المعنى، فيها، قليل ولو أنه من نوع القليل «الذي لا يقال له قليل . نتحسس وجود السياسة تلك، النظيفة ، الأنيقة ، اللبقة، الحاذقة، الرائقة ، الرشيقة والصادقة، فلا نلفي إلا النزر الذي بالكاد يحول دون اجتياح اليأس لدواخلنا. لعلنا نحن من معكنا السياسة تلك حتى أفرغناها من جديتها وصدقيتها، ونفخنا فيها من ما لا ينفعنا و لا يشرفها . لنتأمل في «حراكنا» الاجتماعي و لنتمحص بعده السياسي. جسمنا النقابي، الذي كان لعقود خلت، تغمره مياه السياسة وفيها كان يسبح، بات بلا نفس سياسي أو يكاد . أكثر مطالبه وأكثر مبادراته، هي من تقول أنها غير متصلة بسياق سياسي، إنها بحت « نقابية» ومطالبية وذات علاقة باليومي في حياة الأجراء ... واليومي في حياة الناس عامة تشكله السياسة، وعى الناس ذلك واسهموا فيه أو غاب وعيهم به و فُرض عليهم . وبالصلة مع ذلك. خلال السنة وفي كل الفصول، ولأسباب مقبولة ومفهومة كما لأسباب غير واضحة و حتى غير معقولة، تابعنا المئات، ولما لا الآلاف، من الوقفات والاعتصامات والمسيرات والإضرابات، عمت كل الفئات الاجتماعية من المتوسطة إلى الدنيا، في المدن و البوادي، وفي كل جهات البلاد، حركية تعكس صحو المناخ الديمقراطي، وتؤشر إحصائيا على « حدة الصراع الطبقي» ... غير أنها بلا أثر ملموس على الرفع من منسوب الانخراط الشعبي في التدبير السياسي للشأن العام ... لعل الذي حدث، هو عكس المتوقع ... تباعد أكثر فأكثر بين السياسة و شعبها، أو بين الشعب و السياسة التي تتجه إليه. اللامبالاة تفشت أكثر والتفاعل مع الشأن العام محدود وواهن . والمؤشرات على هذا الوضع، المفارق لمسار التقدم الذي «توغل» فيه المغرب، عديدة، لها عنوان عريض أطلق عليها منذ 2007 هو «العزوف» . ذلك العزوف الذي في بعد عكسي له، و مفارق لمفعوله السلبي، تُمكن قراءته كنوع من ممارسة حرة للسياسة، أتاحتها «ضمانات» الديمقراطية، متحررة من ضغوط « السلطة». ممارسة لاتخدم الديمقراطية ولاتمتن بنياتها وروافعها... ولعل أبرز المؤشرات على اتساع المسافة الفاصلة بين الشأن العام و«ناسه» هو ضعف، وحتى تراجع مقروئية الصحف اليومية بالمغرب. حتى وتلك المقروئية عامة ونسبة محتواها السياسي محدودة ...إنها تفصح لنا عن محدودية عدد ونوع المواطنين الذين يهمهم تتبع وقائع السياسة في بلادهم، بتفاصيلها وبما تنتجه من آراء حولها. يمكن إحالة مسببات هذا الوضع إلى جملة عوامل ، تبدأ من التاريخية و لاتنتهي عند الثقافية. غير أن عبور السياسة لمناطق ملتبسة التضاريس والاتجاه ، يبدو أنه العامل الأبرز. بعض ذلك الالتباس الذي ساد أجواءنا السياسية أنتجته أحزاب الأغلبية المشكلة للحكومة. و لعل اجتماعها - الاثنين الماضي - يشكل خطوة هامة في اتجاه تبديد الالتباس الذي أحاطت نفسها به، وبخاصة لما راج فيه من كلام بعيد عن لغة الخشب، حتى وبعضه لم يسلم من لغة المطاط . عدم تماسك أطراف الأغلبية الحكومية وضعف التضامن المفروض بينها، كان أبرز التباس. سمح ذلك بعدم رسم الخطوط الفاصلة بين إدارة الشأن الحكومي وبين معارضته من داخل الحكومة نفسها. وسمح ذلك أيضا بمحاولات « الانفصال «عن الأغلبية بفعل إغراء ضمان اجتياز حاجز 2010 بنجاح ،سمح ذلك أيضا بالتشويش على المنجز الحكومي من حواشيه، عبر سجالات ( بينية ) نزل بعضها إلى درك السوقية ولا جدوى حتى من أكثرها نظافة ولياقة. وأيضا وأيضا وأيضا سمح بحرمان «رصيد المكتسبات» في خطى التقدم، من التملك الشعبي له عبر تعبئة القواعد الحزبية للأغلبية حوله، لتحقيق إشعاعه على المدى الشعبي الأوسع . جزء هام آخر من الالتباس ، أنتجه عدم إلحاح الحكومة ، بكل مكوناتها، على المفهوم المؤطر للسياق التاريخي لوجودها وفعلها. إنه مفهوم «التوافق التاريخي»... إسمنت هذا الممر بين فجاج تاريخية المسمى بالانتقال الديمقراطي. إنه مفهوم أساس في فهم سياسة المرحلة و الذي يمكن من تفهمها . مفعوله ممتد في كل أوصال الممارسة السياسية، اللازمة التي يساعد ترديدها على تجنب التعثر في إيقاعها. تخلت الحكومة عن إسناد « مدونة سلوكها » إلى مفهوم التوافق التاريخي بين المكونات الأساسية للفعل السياسي الوطني، بما لا يتمكن معه المتتبع المعني من إدراك ما إذا كنا خرجنا منه إلى خلاء السياسة المجرد من علامات تشوير الانتقال الديمقراطي. بل نمت بذلك الالتباس حول هويتها وحول مهامها التاريخية . بالموجز، وعساه المفيد. المغرب، أسئلة عدة يطرحها المغاربة، المغاربة وليس المغاربة المستغربة ولا الغاربة... أسئلة الوجود وأسئلة المآل... أسئلة تتنازع الأسبقية في واقعنا، من نوع... الحسم الدولي في تتثبيت مغربية اقاليمنا الصحراوية ... التعليم وتجاوز اختناقات مصباته في المستقبل و تفعيل جسوره مع المجتمع ... الاقتصاد وتزويد محركاته بطاقات اشتغالها الدائم، وإنتاج الحلول منها للمعضلات الكبرى الناتئة أمام التنمية المستدامة ... الحقل الديني و تنقيته من شوائب و أشواك الانغلاق والتطرف و«أعشاب» قندهار ... تكريس النهوض بالأمازيغية منبعا لتخصيب تنوعنا الثقافي و تعدديته المنتجة واللاحمة لوحدتنا الوطنية... وهلم اسئلة متعددة الأحجام و الأنواع ومتناسلة من حق المغاربة في المغرب المفعم بالحياة الجميلة . إنه المضمون العميق للسياسة التي تنبض بالحس الشعبي وتتنفس طموحات المواطنين... وهي ضد السياسات التي تتبضع الناس لتبعدهم أكثر عن «شأنهم». وهي السياسة التي تتغدى من الوضوح في المفاهيم وفي الممارسات وتتوجه إلى الناس بما يحثهم على تملك« سياستهم» لغاية النهوض بوطنهم ليتمدد في زهو على مدى رحابة وحبور أحلامه.