هناك ما يثير الحزن والغضب معاً: لم يعد مسموحاً ولا جائزاً ولا مفهوما أن تستمر »الدولة اللبنانية« مستباحة في وضح النهار من قبل سفراء السفارة الأميركية في لبنان وخبرائها ومدرائها وموظفيها.. لم يعد مقبولاً أن يتم التعامل مع اللبنانيين على قاعدة الشبهة، بأنهم »شركاء الرفيق بولتون« في المصير. هناك ما يثير حساسية التماسيح: هذه سفارة، ليست ككل السفارات، إنها سفارة دولة راعية للإرهاب الإسرائيلي المعظّم.. هذه سفارة جورج دبليو بوش بسحنة أوباما وسفارة الوجبات السريعة مع كوندليسا رايس، فيما آلة الحرب الإسرائيلية/ الأميركية الصنع تسحق لبنان.. هذه سفارة معادية لأكثرية ساحقة من الشعب اللبناني، فلا يجوز أن يتم التعامل مع سفيرتها، من قبل »الطبقة السياسية المنتفخة« على أنها رئيسة الرؤساء، ووزيرة الوزراء، ومديرة المدراء، ومستشارة المستشارين، وكاتبة الرغبات ومبلّغة الرسالات، ومُغدقة الوعيد والوعود. هناك ما يثير ذكريات غير مرغوب فيها: هذه سفارة دولة، أعطت إذنا لأرييل شارون لاجتياح لبنان عام 1982، وأرسلت بوارجها لقصف الجبل اللبناني، وأنزلت جنودها على الشاطئ لإدخال لبنان في »منظومة العالم الحر«، ضد فلسطين ودمشق.. هذه سفارة زوّدتنا بالوجه البشع لأميركا، وتحديداً في لبنان، فتقدمت الصفوف الدبلوماسية لحماية عدوان تموز 1993 (جردة الحساب)، وحمت إسرائيل في عدوان نيسان 1996، وعفت، ومعها ابنتها الشرعية، الأممالمتحدة، من حساب الضمير، بعد ارتكاب مجزرة قانا.. هذه سفارة دولة نكّلت بلبنان، وجعلته حقل تجارب دموياً، عندما قررت صناعة شرق أوسط جديد، بجثث الأطفال والنساء والرجال. هذه سفارة دولة في سجلها أسماء لضحايانا بالآلاف.. ولم يعتذر منا أحد. هناك ما يثير الاشمئزاز منا نحن: هذه سفارة دولة تتحمل وزر ما آلت إليه أحوال الأمة في العراق.. هذه سفارة دولة تكذب على الكرة الأرضية برمتها، وتتشبث بقداسة كذبها: تحارب الإرهاب، وبن لادن حي يرزق، فيما الأفغان الأبرياء، الذين لا سماء تحميهم، ولا جدران تؤويهم، ولا أرض تطمئن الى أقدامهم يتعرضون كمدنيين، لعملية اصطياد يومية، هذه سفارة دولة ارتكبت 36 كذبة عظمى، ومئات الأكاذيب الصغرى، عندما دمرت العراق، مرة بحرب، مرة بحصار، ومرة باحتلال.. هذه سفارة دولة ترعى حصار غزة الإسرائيلي/ العربي المشترك، كما رعت حصار أبو عمار في المقاطعة، حتى الوفاة. هناك ما يثير الشفقة علينا: هل صرنا مهزومين الى درجة أننا بتنا نبالغ في تقدير وحب من كان له الفضل في تلقيننا حروباً وهزائم ومجازر؟ هل بلغنا عتبة الموت، موت الضمير وموت الذاكرة وموت الإرادة، طمعاً بالسلامة التي تشبه الموت الكسول؟ هل علمتنا الولاياتالمتحدة، أنها »شيطاننا الحارس« لنا من كل نزوة حرية أو شهوة كرامة أو رغبة استقلال أو نزق حياة؟ بالطبع، لسنا كذلك.. وإذا كنا أحيانا نتهم أنظمة عربية قامعة لشعوبها، بأنها تطيع إملاءات أميركا وشروطها الفظة، فماذا نقول عنا في لبنان، وبالكاد لدينا حكومة وازنة، أو سلطة مبوأة؟ ألا يحق لنا أن نسأل أنفسنا: أليس لبنان، بلد المقاومة المنتصرة؟ فلمَ هذا الترهل في علاقات لبنان الدبلوماسية؟ على أميركا أن تتعلم منا أن تقرع الباب وتنتظر الجواب. إذا كان طردها جنونا سياسياً، فإن استمرار فلتان السفارة، أكثر جنوناً. فلتقم العلاقات بين الدولة اللبنانية، حاضنة المقاومة وشعبها وشهدائها وأبنائها، والدولة الأميركية العظمى (ليس عندنا) على قاعدة الأعراف البروتوكولية. فلتكن على الأقل، وبجدارة علاقات ندية، نسبياً، ولتسلك »سعادة السفيرة سيسون« خارطة الطريق الطبيعية، عبر وزارة الخارجية. ولتقفل الأبواب المشرعة أمامها، وليكف المؤمنون »بولاية الفقيه الأميركي«، عن استدعائه وتمهيد الطريق له، ليكون المرشد الأعلى للسياسات الأمنية و»الإنمائية« والانتخابية. ثم أخيراً، هناك ما يثير القول الاستهجاني: العمى بعيونكم! ألا تعرفون أن »السياحة« الدائمة لسيسون في لبنان تهدف الى ما لم تستطعه إسرائيل في حربها، وما عجزت عنه واشنطن عبر استغلال جريمة قتل الرئيس الحريري، وهو وضع سلاح المقاومة قيد الإقامة الجبرية في موقع تحت تسميته ب»قرار السلم والحرب«. بكل احترام، مطلوب من أطراف أساسيين في الدولة اللبنانية، أن يحترموا شرائح واسعة من الشعب اللبناني... فلبنان، ليس محمية من محميات »بولتون وشركاه«. صحيح أن بولتون لم يعد في موقعه... فإلى متى تبقى مواقعه هنا في مكانها، سياسة وأمناً واستراتيجيا؟