في المساء الأول، كنا مجردين من الأحاسيس إزاء لندن، مثل الشجر العاري على طريق المطار، واقفين على حافة العواطف، منزوعي الحواس في انتظار الخروج من الجلسات الماراطونية لفهم التنوع الإعلامي البريطاني. في الفندق الصغير، كانت ميليسا تجهد نفسها في الترحاب بنا، البوسنية النباتية، أرهقت جسدها النحيل بالأعشاب والرياضة والبحث عن الأقليات. وكانت تصوغ، باسم الإدراة التنفيذية ما تعتبره «مواجهة التحيزات اللاعقلانية وتحديد أجندة عمل المتطرفين السياسيين»، وهي تركز في الآن نفسه على وجود «صورة من صور التحيز لدى كل شخص». السيدة التي أعقبتها، ايسلي ابيدلا، قالت بأنها «مصيبة حقيقية لبريطانيا»، وهي تبتسم. وبالرغم من كونها حاصلة على جائزة المرأة البريطانية في أوروبا عام 1996، فإنها تعتبر كونها نسائية كارثة في بريطانيا. وهي من جيل نشأ تحت معاطف الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس ولا العنصرية أيضا. وقتها كانت بريطانيا تعلق على دور الإيجار«ممنوع عن السود والإيرلانديين». ومنذ 25 سنة فقط لم يكن يسمح للنساء بتقديم نشرات الأخبار، وقتها كانت لطيفة بلقاضي تطل علينا كل يوم من الشاشة: أين يقف النوع وتنتهي المقارنة؟ كان الخوف لدى كثيرين منا أن يتم استغلال مثل هذه النقط، لكي يقال لنا: «انظروا بريطانيا، إلى حدود الثمانينيات كانت البريطانيات ممنوعات من تقديم الأخبار، ونحن وطأنا هذا القمر قبلهم». لكن ليسلي مقتنعة أيضا بأنه مازالت هناك مظاهر للتحيز «فالرجال مسموح لهم بالسمنة في المناصب وليس النساء». ثم تعرج على قضية معدة برنامج تدعى إرلين فيليبس التي منعت من برنامجها وعوضت بأخرى أكثر رشاقة وشبابا. لما اندلعت حرب الحالة المدنية وعد مدير «البي بي سي» بأنه«سنقبل بالنساء إلى حدود... 50 سنة».! وينسون مانو، الملون على حد تعبير الأوروبيين، جاء لعيطينا نظرة عن بلدان المستعمرات السابقة، وعن العالم اليوم، وعن الإعلام أيضا، الذي كان قريبا منا، شريف النشاشيبي، قال بأن هناك مشكلة تسمى العائلات: فالعائلات لا تشجع أبناءها على ولوج عالم الإعلام، فهي تريدهم أطباء أو مهندسين أو ما شابه. تجربته تعكس هذه المخاوف ورفض عائلته. جاءت أسئلتنا متنوعة، تسكنها هواجس محلية ومحاولة المعرفة المبنية على المقارنة. بعضنا تطرف قليلا أو بالغ، حتى خلنا أن السؤال الموالي سيكون هو «هل تجوز الصلاة بالبيكيني؟». على كل ، في كل مرة كان بعصنا يتحدث عن التنوع البريطاني وجدواه بالنسبة لنا، البعض الآخر كان ينقل الوقائع وينسى الواقع، ويريد للمغرب أن يكون بلا اندماج أصلا. كنا متنوعين في المقاربة، وليس في نقل الحقيقة الاجتماعية والثقافية، ولم يكن ذلك هو المطلوب أصلا. ولم نشعر بأننا متباعدين كثيرا عن هواجس مهنة تبحث عن وجود أصلا. في البي بي سي، وقفت سو كارو، للتحدث مطولا، معززة كلامها بالأرقام عن الوضع الإثني في البلاد، إحصائيات تقول بأن بريطانيا بعد سنوات ستصبح نقمة على أقليتها وأغلبيتها الحالية. هي نفسها عرضت علينا على الشاشة الكبيرة في قاعة اللقاء صورة ابنها، أسمر اللون، لاعب كرة القدم في فريق معروف. على كل كانت تتحدث وكنت أقاوم صورة المربية في فيلم« أنا والملك»، من بطولة يول برونيے---ر. زيارتنا لمقر البي بي سي، جعلت المنظمين يقسمون الوفد إلى مجموعات، يتولى كل واحدة منها مسؤول في هذه المدرسة الإعلامية التي يشتغل قسمها العربي ب 300 إعلامي، يعدون برامج التلفزيون، والمكتوب والإذاعات.. 300 نفر فقط أيها السادة يسهرون على مجد البي بي سي وتاريحها العريق في الإعلام بكل «ميلتيميدياه»! سمعنا أيضا كلاما عن الصحافة الصفراء، وقارنا بين رفض الكلمة عندنا بعد الاستنكارات التي نعرفها جميعا، وعن بقائها عندهم، رغم التطورات كلها. صحافة يمكن أن نسميها «الڤيڤيسي» شرف الله قدركم! مرات عديدة واجهنا المزاج المتقلب للمطر، وشاءت صبيحة الجمعة تمتيعنا بخيوط شاحبة لشمس لا ترى. وكانت الريح قاسية مثل قتلة ويليام والاس، رمز الشجاعة أو القلب الشجاع في فيلم ميل جيبسون. لم تنقذنا منه سوى مكاتب«الغارديان»، التي تضم بين جدرانها 800 صحافي. والجميل في كل هذا الحجيج الإنجليزي هو أنني لم أشاهد أي صحافي «واقف» بالقرب من صحافي آخر، ولا اثنين مجتمعين في حلقة لمناقشة الأثمنة مثلا، الصمت معمم مثل الضباب هنا، حيث كانت مرافقتنا الحامل تطلب منا أن نحترم الصمت داخل هيئة التحرير. القسم الثقافي الذي ضم أزيد من 70 شخصا، كان قسما للكتب التي تحيط بالصحافيين والبحث عن المواقع الثقافية. في القناة الرابعة كانت المسؤولة عن قسم الأخبار توجه السهام إلى البي بي سي، وتحاول أن تقنعنا كيف لقناة أنشأتها مارغريت تاتشر الليبرالية المتوحشة، يمكنها أن تكون يسارية ليبرالية (الشيء الذي دفع بوعشرين أن يقترح علي، من أقصى الطاولة أن أبقى في انجلترا).. ولم يتردد يونس مجاهد في أن ينتقذ تدخلها في توجيه البرامج عندما قال بلا مواربة أن «القول بأن البريطانيين يقولون كذا أو يفضلون كذا، موقف سياسي لا علاقة له بالحياد المفروض»، وهو ما يبدو أنه كان مشتركا بين الجميع. على كل، كانت لندن في خدرها الليلي، مثل فكرة، بالنسبة للحظات القليلة التي جلنا فيها، بين «الشينا تاون» والباركلي، كنت شخصيا «عضوا ملاحظا في ... الفرح» بسبب الظروف التي أمر بها، بالرغم من التجربة المستحقة في الأمكنة الموضوعية .ذا كان زمان، وكانت لندن امتحاني الأخير.