منذ أن تعاطيت للكتابة على صفحات هذه الجريدة وأنا أحاول التفاعل كمواطن مع المستجدات التي يعرفها المغرب. وتحول هذا التفاعل بفضل اطلاعي على مجموعة من الكتابات إلى انشغالات فكرية وتربوية متواضعة تهدف أساسا إلى تعميق وعيي بالمشاكل النظرية والعملية التي تطرح على مجتمعنا المغربي في مختلف المجالات خصوصا السياسية منها. لقد ركزت أكثر على التفاعلات الفكرية التي تتمحور حول التراث، والفكر العالمي المعاصر، والقضايا الراهنة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية في المغرب. كما حاولت قدر المستطاع أن أضفي على تفكيري نوعا من الموضوعية بدون أن أكون ضحية لعمليات الاحتواء من طرف المشاكل، والإشكاليات، والقضايا التي أناقشها. حاولت منذ البداية، في تعاملي مع قضايا الفكر الغربي وقضايا المغرب المعاصر، مقاومة السقوط في حالة الدفاع عن سلطة التراث ونزعاته الموروثة بدون سند موضوعي وعلمي. إنها محاولات دائمة لمقاومة كل أشكال الاستلاب لكي لا أسقط في حالة التقوقع والانغلاق في التعاطي مع الإشكاليات الفكرية تفاديا للجمود والعدمية. وبذلك، سعيت دائما إلى تجاوز الاعتبارات الضيقة لكي أساهم في النقاشات الحقيقية بشأن قضايانا المستعصية. كما أبذل كل ما بجهدي لتفادي إخضاع أفكاري لمصالحي الشخصية أو السقوط في قفص التبعية الانتهازية، وبالمقابل، أعقد آمالا كبيرة في أن يمكننا المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، كإعلان تاريخي رسمي ميز العهد الجديد، بأن لا يحول بيننا وبين الوطنية مصلحة أو نفوذ. وبنفس المنظور، عندما أستحضر إشكاليات التراث أبتعد كل البعد عن الاندفاع في تمجيد نزعات «النوستالجيا» التاريخية، أي تمجيد الماضي بمقدار مقت الحاضر بانفعال تحت ضغط «ويلات» الحاضر و«انحرافاته»، بل أعترف، من باب الأمانة الفكرية التي أومن بها، أن تراثنا، كحضارة عربية إسلامية عرف فترات ازدهار، لكنه عرف منذ زمان توقف في جوانب التقدم والإبداع، وتوسعت جراء ذلك الهوة بينه وبين مجموعة من الحضارات الأخرى خصوصا الحضارة الغربية. أعترف كذلك، أننا بالرغم من اقترابنا من الحضارة الأوروبية بل وانخراطنا معها رسميا في قواسم مشتركة عبر انتمائنا لحضيرة دول البحر الأبيض المتوسط، لم نحدد بعد مسارا مجتمعيا وسياسيا يمكننا من إعطاء الانطلاقة لمشروع المواكبة الحضارية للتقدم الغربي. وفي هذا الشأن، أعترف كذلك، أن التعامل والتعاطي مع قضايانا التربوية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية لم يتحول إلى «خطة طريق» استراتيجية محكمة، بل نحس أن قضايا الحاضر لازالت سجينة تصادم الفكر الماضوي بكل ترسباته وامتداداته بالفكر التقدمي الحداثي، وبوجود قوة ثالثة فيما بينهما أسميها «جيوب مقاومة مخزنية غير رسمية» دائمة الوجود والتأثير في المشهد السياسي المغربي، وتتخد أشكالا مختلفة حسب الظرفية، لكن يبقى منطقها قارا بأبعاد ضيقة تهدف إلى عرقلة كل ما من شأنه أن يساهم في خلق الإجماع بشأن التعاطي مع القضايا الجوهرية للبلاد خصوصا السياسية منها. إنه منطق لا يسمح بالتغير الاجتماعي الكفيل بتحويل الأصالة التراثية ببدعها وبفكرها الظلامي أو الأصولي إلى أصالة معرفية مدعمة للحداثة. إن ما يهم هذه الجيوب هو الاستمرارية في اشتداد الصراع والتلاطم بين بقايا أمواج الماضي وامتدادات أمواج الحاضر. وعلى سبيل التشبيه، أعتقد أن رواد هذه الجيوب، وما يعيشونه من رفاه وغنى مادي نتيجة لاستحواذهم على جزء لا يستهان به من خيرات البلاد، لا يدخرون أدنى جهد لتحويل المشهد السياسي إلى مستنقع للمراقبة والتسلية في نفس الوقت لن تصفو مياهه من شدة الصراع المفتعل بين التقليد والحداثة. صراع يعكس ويخدم مصالح ومطامح فئات وطبقات مختلفة والتي لا تريد أن تتبلور في المجتمع الرؤية الصحيحة لقضية الأصالة والمعاصرة.