نقيم في الجغرافيا وبالتاريخ نحيا... ويحدث العكس، بإرادتنا أو بدونها... لأن في الكثير من الجغرافيا تاريخ وأيضا الكثير من التاريخ أنتجته الجغرافيا. ومجموع هذا وعصارته نسميه الوطن.. وفي حالتنا نقول الوطن المغربي. قد لا يكون أجمل بلد في العالم...ولكنه، حتما، أحب بلد لنا. الجغرافيا...ولنا من تنوعها ما يزيد عن حاجتنا...أعطتنا الكثير، ونحاول أن نبادلها العطاء بسخاء، وإن بتعثر، ببطء، ومرات عدة بأخطاء في التقدير أو بسوء التدبير وبقصور في التفكير... غير أننا اليوم ورش كبير يطال كل حياة فينا وكل جهة وكل قطاع وكل نقص وكل خصاص وكل مكسب وكل طموح، وتحدوه إرادة إنتاج وطن باسم لكل مواطنيه. والتاريخ ...أمدنا بعراقة الأصل وثراء الحضارة وتنوع الهوية...أمدنا بخاصاتنا وبالمشترك بيننا...أمدنا ببصمة مغربيتنا في التراكم الكوني...حقه علينا أن نحفظه وننميه ونسمو به فوق كبرياء وطنيتنا. هذا العمران الإنساني الذي اسمه المغرب، بممكنه الجغرافي وعمقه التاريخي، تمور في دواخله قضايا كبرى وتجاذبات قوية، تهدر أو تغلي في أوصاله وشرايينه....وتطال استهدافاتها أو ارتجاجاتها ... يا جغرافيته ..يا تاريخه أو كلاهما. وطالما هي مشدودة إلى ألياف الوطن ونابعة من مشتل الرأي فيه، فإنها حتى إذا لم تدفع في تقدمه فهي لن تؤثر في تأخره...الآفة هي ما تولد لنا من خارج الحضن الوطني...نزوعات تورمت في جسد الوطن تنخره وتستشري في أوصاله. وتستنفر فينا - وجوبا - حشدا مستمرا لطاقات مواجهتها وبحماس دائم الاتقاد وحرص لايفتر ونفسا وطنيا حارا وموحدا. الجاثم منها على أنفاس الوطن والناتئة في مساره تعثر خطواته...معضلتان بارزتان ...مشكلاتنا الأخرى أمامهما قابلة للتعاطي معها بقدر أقل من الحدة والخطورة. النزاع حول مغربية أجزائنا الصحراوية... طال ولعله سيطول... أملا في نجاح المحاولة المتواصلة حتى الآن.. لاقتطاع بعض الجغرافيا المغربية من كل التاريخ المغربي...محاولة تعرف الدولة الجزائرية قبل غيرها، أنها غير قابلة للتحقق...فلا الصحراء تستطيع أن تتنكر، وجدانيا وواقعيا لأواصرها المغربية، ولا باقي أجزاء المغرب تسمح بالتنصل من عمقها الصحراوي التاريخي...وحتى مع المبادرة المغربية للخروج من النزاع بلا غالب ولا مغلوب، فإن الجزائر مصرة على عنادها. وكل ما يجري اليوم فهو مجرد انشغالات في قاعة انتظار تاريخية، ريثما تبتكر القيادة العسكرية الجزائرية عقيدة عسكرية جديدة، ذات فائدة داخلية، غير «عقيدة العدو المغربي». والوطن منهمك في صون تطابق جغرافيته مع تاريخه، وحماية تكاملهما...داهمتنا من فيافي سحيقة في التاريخ صيحات تكبير لبعض «دعاتنا» فجرت سكينتنا وخضبت بالدم أسئلة الوطن...نبتت فينا من هوامش الدين والدنيا ... بإسلام غير إسلامنا...وبغضاء تناقض تسامحنا، وانشداد للماضي يعاكس تطلعنا للمستقبل...همهم الأساس، أن نزرع في ذقن تاريخ المغرب لحية أبو قتادة وأن تضع جغرافيته نقاب أم قتادة... وأن نتوئم تاريخنا بتاريخ قندهار، لنوحد ما بين التاريخيين في أدعية واحدة وجلاليب واحدة وبراقع واحدة وتأوهات واحدة وانفجارات واحدة... وعبثا يحاولون...إذ المغاربة مسلمون بلا عداء لغيرهم ومؤمنون بلا ضيق، لا يرون في كل فن فاحشة ولا في كل احتفاء بالحياة منكر ولا في كل تفاعل مع الإنسانية ضلالة. ومع ذلك ستستمر محاولاتهم ولعلها ستتسع، وتتلبس بكل ما يمكنهم من النفاذ إلى مسام المجتمع واختراق مكامن الفرح فينا... جبهتان كبيرتان مفتوحتان على الوطن، واحدة من خارجه ولها امتداد في داخله ترعاها الجزائر بحدب وحماس... والثانية داخلية وتتغذى من الخارج ببركات «الأمميةالإسلاموية الكفيرية» ... جبهتان لوحدهما تستوجبان أن لا ننشغل عنهما بأي مشغلة أخرى ولا بأي معارك أخرى، وأن نعلي إجماعنا الوطني إزاءهما، أن نعليه أداة ورافعة في الدفع بديناميكية إنجاز أوراشنا المجتمعية الكبرى... جوابنا التاريخي على استهدافنا من الخارج ومن الداخل. غير أن الأمر ليس على ذلك المنحى. «نخبتنا» ، أوسع مكوناتها، فوضت للدولة (بالمعنى الواسع للمفهوم) المواجهة على مستوى الجبهتين وأكثر، والانزواء بعيدا عنها في موقع المستقيل من مهام الإسناد السياسي-الفكري و المعنوي لها... هذا ما يبدو في سلوك فئات واسعة من «نخبتنا» تجاه مغربها ... كما عبرت عنه المشاركة الضعيفة في الانتخابات، وكما تدل عليه حالة إحباطها، التي استبطنت فيها خطابات التيئيس والتبخيس تجاه ما أنجزه التوافق الوطني من تقدم ديمقراطي هو أداتنا في التقدم الاجتماعي...حتى أضحى صناعه يرددون خطاب المشككين فيه ...أليست مفارقة أن حتى أصوات قواعد وأطر الأحزاب المشاركة في الحكومة (المنبرية لإنجاز الطفرات المجتمعية الكبرى) خافتة إذا لم تكن غائبة في ملء هواء الوطن بقيم الضامن، والثقة في الذات والتحفيز على العمل المنتج والوفاء لتاريخنا والتحريض على الأمل واختراق المثبطات...أليس مفارقة أننا تحولنا من مناضلي أحزاب، بنفس كفاحي وحماس نضالي وحرارة وطنية، إلى مجرد أعضاء في الحزب اليوم كما يقال لنا... يراد لنا أن نمارس حزبيتنا ببرودة وفردانية، كما لو أننا في مجرد شركة مساهمة... نعمل بمنطق الربح والخسارة ونعامل المغرب كما لو أنه مجرد صفقة.. والمفارقات كثيرة ومظاهر السلبية تجاه تحديات الوطن كثيرة، وأكثرها بحسن نية. ليست الصورة بكل هذا السواد ولو أن المرارة يفقد معها البياض الناصع بياضه ...أكيد أن الوطن ينبض بنبض مناضلات ومناضلين فاعلين هنا وهناك... والأكيد أكثر أننا في حاجة إلى دفقة حماس وطني في دمائنا تدفئ ما ركد في دواخلنا وتسري في أوصالنا. إذ لا تنتصر قضية ما لم ينتصر لها شعبها وينصهر فيها، وتحملها نخبته في عقلها وفي قلبها .. وقضيتنا الأساس تقدم الوطن ورقي حياة المواطن،التي انصنعت لنا كوابح، من الخارج ومن الداخل، لفرملت اندفاعنا للانتصار لها.. لن تخبو جذوة الوطنية فينا...في النهاية هي مسألة عرفان للجغرافيا ووفاء للتاريخ.