هذه الورقة تستهدف تسليط الضوء على مفهوم الحزب الأغلبي، صيغ تأسيسه، مساراته التاريخية، رجله القوي في كل مرحلة، إيديولوجيته، آليات صناعة القرار فيه، ارتباطاته الهجينة وموته السريري المنتظر، كل هذا لوضع مقارنة بين الماضي والحاضر للوقوف على الطريقة البسيطة في التفكير لصنع بديل وهمي اسمه الحزب الأغلبي. عرف المغرب الحديث منذ بداية الاستقلال وتولي الراحل الحسن الثاني مسؤولية الحكم، ظاهرة تكاد تكون مركزية في تفكير العقل السياسي لدى السلطة، ونعني بها صناعة أحزاب قريبة من توجهات الدولة، تدافع عنها إما بتصريف البرامج أو بالتصويت الآلي على الاختيارات المرحلية والاستراتيجية في كل محطة سياسية. ولتفكيك مفهوم الحزب الأغلبي، لابد من فهم خصائص ومعرفة أصوله وهيكلته التنظيمية ومذهبه ومآله السياسي. في الأصول .. استقر رأي معظم الكتابات التي رافقت النقاش العام الذي أحيط بهذا الموضوع، على أن بروز الحزب الأغلبي مرتبط إما بمبادرة حكومية أو يتم صنعه عبر تشكيل تجمع بين أحزاب صغرى أو أغلبية من «المحايدين» أو انبثاقه من جمعيات محلية أو جهوية . في التجربة البرلمانية الأولى كان المدير العام للديوان الملكي أحمد رضا اكديرة وراء إنشاء جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية ووظف في ذلك تجمع الأحرار المستقلين والحركة الشعبية وحزب الشورى والاستقلال وموالين للقصر لم يسبق لهم التحزب، ومثله فعل الوزير الأول أحمد عصمان الذي أنشأ حزب التجمع الوطني للأحرار سنة 1978 وساهم في تأسيسه وزراء من حكومة 10 أكتوبر 1977 كمولاي أحمد العلوي والطيب بن الشيخ وعبد الكامل الرغاي وعبد القادر بنسليمان. ولم يشذ عن هذه القاعدة المرحوم المعطي بوعبيد من موقعه كوزير أول سنة 1983، حيث قاد عملية تأسيس الاتحاد الدستوري الذي سيحرز على «أغلبية نسبية» في برلمان 1984. وعبر مختلف التجارب البرلمانية المغربية، فإن أصول الحزب الأغلبي لم تخرج عن قواعد ثلاث.. - المحايدون أو المستقلون وكانوا خزان الحزب في التجربتين البرلمانيتين الثانية والثالثة (جبهة اكديرة وحزب عصمان) . - الأحزاب الصغرى وشكلت روافد لإغناء جبهة الدفاع . - الجمعيات المحلية والجهوية التي استعملت في استقطاب النخب غير المتحزبة وإبعادها عن الانتماء السياسي لأحزاب الحركة الوطنية، وكنموذج نورد ما شهدته بداية الثمانينات من ميلاد عدة جمعيات لقدماء مدارس المدن ضمن تكتيك غايته تنمية مسقط رأسهم اقتصاديا واجتماعيا واستراتيجية هدفها تشكيل منابت للحزب الأغلبي الذي سمي فيما بعد الاتحاد الدستوري. في منتصف الثمانينيات أيضا تم تطوير صيغة الجمعيات المحلية إلى جمعيات جهوية موسعة، لا تخرج استراتيجيتها عن تكوين لجان انتخابية داعمة للوجوه اليمينية في انتخابات 1992 . (جمعية الأطلس الكبير بمراكش - رباط الفتح بالرباط - زاوية إيليغ بسوس - وهي قريبة في تأسيسها ومحضونة من مستشارين أو رجال قريبين من الملك ك..عواد وفرج أو وزراء، بوفتاس، مولاي أحمد العلوي أو رجال سلطة ..المنصوري وبنشمسي). الهيكلة التنظيمية للحزب الأغلبي .. من الخاصيات التنظيمية المرتبطة بحزب الأغلبية التفافها حول وزير قريب من القصر، وهكذا كانت جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية والحزب الاشتراكي الديمقراطي مرتبطين بأحمد رضا اكديرة الرئيس الفعلي للحكومة وأحمد باحنيني كوزير أول لأول حكومة دستورية، نفس الارتباط والالتفاف كان حول أحمد عصمان الوزير الأول آنذاك، ونفس الصيغة المنقحة عرفها أيضا الاتحاد الدستوري حول الوزير الأول المعطي بوعبيد. الهشاشة السياسية والتنظيمية .. لأن الحزب الأغلبي مكون من نخب سياسية وإدارية واقتصادية وانتهازية أيضا ينتهي في تنظيماته إلى التآكل بفعل ابتعاده عن الفعل التنظيمي المؤسساتي وارتباطه بشخصية صانعه رغم أن الجميع داخله يتحدث عن دفاعه عن مشروع الملك والولاء له، وهكذا نجد في تجربة الجبهة كثير من نقط الالتقاء في الخلافات التي عرفتها بداية تأسيس الأصالة والمعاصرة وربيبتها التاريخية الجبهة، حيث أن أنصار اكديرة اختلفوا مع حزب أحرضان الذي تشبث بتمثيل مواز لقوته البرلمانية، وسينتهي هذا الخلاف بتأسيس الحركة الشعبية لفريق برلماني مستقل، ونفس الأمر نجده عند أحرار بداية القرن وأصالة 2009 . نفس هذه الهشاشة ارتبطت بالتجمع الوطني للأحرار التي انفصلت عنه نخبته القروية وشكلت الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة أرسلان الجديدي وبعده الكولونيل عبد الله القادري. غلبة العوامل الشخصية والاستوزارية وتغييب الخلاف الإيديولوجي سرعا بانهيار أي تحالف بين مكونات الحزب الأغلبي في كل مرحلة سياسية. مذهب الحزب الأغلبي.. رغم أن السلطة السياسية كانت تسعى إلى تغيير الحزب الأغلبي عقب كل استحقاقات انتخابية، فإن المتمعن في أدبياته السياسية ووثائقه، يلاحظ أن أحزاب الأغلبية الموضبة كانت تتبنى ما سماه الأستاذ معتصم بالتقليدانية الدستورية ومحاولة ملء «فراغ سياسي» والدفاع عن الليبرالية ورفض مقولات الاشتراكية. - لشرح ما قصد به المستشار الملكي الحالي الأستاذ محمد معتصم حول مقولة التقليدانية الدستورية، فإنه يورد في كتابه القيم الحياة السياسية، أن أول حزب أغلبي جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية كان يدافع عن المشروعية التقليدية للنظام وتبرير استبعاد الجمعية التأسيسية للدستور، اكديرة صاحب الحزب المذكور كان مذهبه هو التقدم والحرية، في حين ارتبط مذهب التجمع الوطني للأحرار بمفهوم «الحسنية» التي ترمز إلى تبني المفهوم الملكي للملكية الدستورية كما ورد في كتاب التحدي، وجعل الحزب الأغلبي أداة لتنفيذ السياسة الملكية. ضمن مفهوم للحكم يربط تاريخ المغرب بتاريخ ملوكه، ونفس الشيء تكرر مع الاتحاد الدستوري. - لموقعة الحزب الأغلبي في المشهد السياسي يلجأ صناع القرار عقب إنشاء أي حزب أغلبي إلى تبني استراتيجية تحاول تجاوز أحزاب الحركة الوطنية ومن ضمنها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية آنذاك، عبر الادعاء بأن مثل هذه الأحزاب ترهلت وشاخت ولم تعد تسمن ولا تغني من جوع سياسي أو دستوري أو ثقافي !، مثلا اكديرة كان يصف أحزاب اليسار بالديماغوجية وترديد الشعارات الجوفاء، في حين أن أحرار 77 تحدثوا في تنظيرهم عن أفول دور الأحزاب التقليدية مع نهاية المرحلة الوطنية، والتبجح بصعود نخبة شابة ستساعد الملك على تطبيق برنامجه وقيادة البلاد بشكل متماه مع الإرادة الملكية، و بالنتيجة، فإن الخطاب السياسي لحزب الاتحاد الدستوري سنة 1983 كان يتحدث هو الآخر عن عجز الأحزاب التقليدية على بعث الأمل والحاجة إلى تأطير جيل ما بعد الاستقلال. - في مناداتها بالليبرالية ورفض مقولات الاشتراكية، كانت وثائق الحزب الأغلبي خالية من الحديث عن التناقضات الاجتماعية أو الصراع الطبقي أو الفساد ، في حين ركزت في دعوتها على الصالح العام والسعي لإقامة مجتمع الحرية والإخاء ورفع مستوى المعيشة والتعاون والتضامن. عرضية الحزب الأغلبي .. بعد استعراض أصول الحزب الأغلبي وهيكلته التنظيمية ومذهبه السياسي .. نصل إلى نقطة أساسية مرتبطة بوجوده ومساره وموته السريع الذي يكون دائما مرتبطا بمحطة سياسية معينة. يقول الباحث الرصين الأستاذ محمد معتصم لدى تفكيكه لمفهوم الحزب الأغلبي بالمغرب، أنه حزب عرضي، لا يلبث أن ينهار بفعل تركيبته ومساراته الهشة. هنا نورد ما قال أحد الباحثين حول هذا الأمر.. «الأحزاب الأغلبية لا تعمر أكثر من عمر الزهور والبرلمانات بالمغرب». خلاصة .. عند إيرادنا لخصائص الحزب الأغلبي كما جاء في كتابات الأستاذ معتصم، فإننا نطرح أمام الملاحظين والباحثين وجمهور القراء الصورة الحقيقية والخلفية الموضوعية التي تؤطر ما يقع في مغرب اليوم من إعادة تنزيل واستنساخ تجربة الحزب الأغلبي في طبعة مزيدة ومنقحة تتلاءم مع الشروط السياسية التي يعتقدها البعض ناضجة لفرض أفكاره والدفاع عن مشروع حداثي ديمقراطي من منظور أحادي. متجاوزا هذا «الأحد» المداخل الحقيقية للانتقال الديمقراطي، وللجميع واسع النظر.