في هذه المقالة من سلسلة المقالات المتعلقة بالزواج، لا بُدَّ لي أن أشير في مقدمتها إلى أنَّ الزواج، مختلط كان أو لم يكن، هو ظاهرةٌ اجتماعيَّة حضاريَّة لتحقيق سَعادة الفرْد والجماعة، لذلك فهو يحتاج، شأنُهُ شأنُ كافة المؤسَّسات، إلى مُبرِّرات الاستدامة، وشروط الاستمراريَّة، وعوامل الصقل، والحِفاظ على الديمومة. ويُعتبر التوافقُ المادي والاجتماعي، والتلاقي الثقافي والحضاري والعقَدي وانسجام العادات والتقاليد، من أهمِّ عوامل ديمومته، وتحصينِه من الإفلاس والانهيار. لكن كثيرًا ما تحيد مؤسسة الزواج هذه عن هذه القاعدة الذهبية عند الكثير من الأزواج العرب والمسلمين، حتى أضحى الطلاق عندهم، من أسهل الحلول وأسرعها لحسم أية أزمة بين الزوجين- وإن كان الزواج عن حب وتم على اختيار، هذا الطلاق الذي كان بالأمس آخر حل يمكن اللجوء إليه، وكانت تسبقه جلسات صلح عائلية- وذلك بسبب جهل الأزواج لطبيعة المرأة الأكثر عاطفة وأشد رهافة وأرق إحساسًا من الرجل، وعدم امتلاك الكثير منهم للدراية والقدرة والصبر على قيادة سفينة الأسرة، خاصة خلال العامين الأولين للزواج، حيث تحدث أكثر من 50% من الطلاق، والذي لا يقتصر على طبقة اجتماعية دون أخرى، لكن حدته تزداد في الطبقات الشعبية، بسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وكثرة الأبناء، بينما ترتفع نسبته في الطبقات الراقية، بسبب امتلاك المرأة لاستقلالها الاقتصادي وكثرة طموحها المادي والمعنوي وقدرتها على القيام وحدها بالإنفاق على نفسها وأطفالها، الشيء الذي يدفعها إلى معاملة زوجها معاملة الند القادر على النقاش والحوار، فلا تقبل أي نوع من التنازل، ما يخلق الكثير من المصاعب والمشاكل وينوع أسبابها، وتبقى النتيجة في النهاية واحدة، وهي أن الأبناء، هم الخاسرون الذين يلعقون المر والحصرم الذي يزرعه آباء وأمهات عند إقدامهم على عمليات الطلاق دون التفكير في مصيرهم. لاشك أن الخلل في ذلك لا يقع على الفرد، بل في على الكيان المعرفي العام المحكم قبضته على الفرد، تلك القبضة التي تحدد صيرورة المجتمع ككل وتغرس المفاهيم الخرافية التي تحتكر النصوص لتضخيم وتقديس الرجل حد التأليه، في العقول -من الجنسين معا- التي تنظر للمرأة، مند الولادة إلى أن تصبح في سن النضوج والزواج، على أنها لا شيء بدون الذكر، وأنه هو من يحميها ويستر عورتها، وبدونه تبقى عرضة للشك والاتهام في جميع تحركاتها، حتى قيل فيها من الأمثال والحكم الشعبية التعميمية التي شاعت بين الناس، ما لم يقله مالك في الخمرة، ولو لم تصدق أو تنطبق على حالتها، وحتى إذا صدقت وانطبقت على بعض أحوالها، فإنها تخيب في كثير منها مثل: (ستر البنت رجلها) و (خطب لبنتك قبل ما تخطب لولدك) أي ابحث لبنتك عن الزوج الذي يسترها، و(الله يعطي للمرا شي رجل يغطي رأسها). ورغم انتقال المرأة لبيت الزوجية وفرحها بكونها أصبحت ربة بيت مستقلة ولها عائلة، فإنها تجد نفسها كأي قطعة أثاث في البيت بلا رأي لدى زوج أسرته الموروثات الاجتماعية الرافضة والمزدرية للأنثى منذ اليوم الأول لولادتها، وفي كل مراحل عمرها: (شاورها وما دير يريها) (إللي يسمع لمرة مرة، يندم ألف مرة). (لا تثق بالمرا ولو نزلت من السما). وإن حاول الزوج الانفتاح والتحرر من ذلك الموروث، يجد الملامة في عيون كل من حوله، ويُتهم في رجولته ويوصم بالجبن والخضوع لزوجته، ويتخمه الفقهاء والوعاظ بنصائحهم التي لا تخرج عن النظرة الذكورية القديمة عن المرأة، والموروثة عن العرب- قبل الإسلام- والتي كانت دائماً ولا تزال غير معترفة بأن للرجال والنساء حقوقا وواجبات متساوية في العمل من أجل حياة زوجية صحيحة مستقيمة مصداقا لقوله تعالى: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ” التوبة:71. ما يكشف عن انفصام الشخصية العربية “الشيزوفرينا ” التي تحتاج إلى العلاج السيكيولوجي المكتف، حتى تتخلص العقلية العربية من العقد النفسية المكينة المسماة ” فوبيا المرأة ” المسيطرة على الرجل الذي يهيم بالمرأة حد الجنون، ويعشقها ويغرم بها إلى أبعد حدود الهيام، ثم لا تلبث أن تنتقل به النزعة الذكورية الجامحة بين أقصى نقيضي العبادة والتقديس المبالغ فيهما للمرأة، وبين السيطرة عليها وامتلاكها وإخضاعها بل وإذلالها واسترقاقها وجلدها باسم الإسلام الذي كرمها وسواها بشريكها الرجل. بخلاف الغربيين الذين نتهمهم ظلما بالمادية والتفكك الأسري، وهم الأفضل في تعاملهم مع الزواج، حيث يكرم الزوج زوجته ولا يهينها، ويحسن الحديث معها بأسلوب رقيق مهذب ويقدر رأيها ويستمع لحديثها، يكثر من الكلمات الطيبة، ويستر أخطاءها، ويصبر ويتغافل عن الكثير من هفواتها، ويزيد صبره فى أيام حيضها، ويطيّب خاطرها، ويدعو لها، ويكتم سرها، ويوفر لها سكنًا مستقلاً، ويعينها في بيتها ما استطاع، ولا يبخل عليها ولا على أولادها حسب استطاعته، ويتنظف ويتزين لها، ويسامرها ويمازحها، ولا يأخذ حقًا من حقوقها إلا بإذنها، ويستبعد الطلاق حتى لا يعرض مستقبل أبنائه للخطر، خاصة أن الكثير من دراسات الطب النفسي أثبتت أن أطفال الأسر المطلقة هم الخاسرون من عمليات الطلاق، لما يواجهونه من صعوبات تؤثر على نموهم النفسي وتعوق توافقهم مع أقرانهم في الدراسة والبيئة المحيطة بهم، ويعانون كثيرا من المشاكل الانفعالية والاضطرابات السلوكية والخوف الدائم من الزواج، وتضارب في الشعور بالولاء لأحد الوالدين وميل للعنف والشذوذ وحدة الطبع التي تجعل الكثير منهم عاجزين عن بناء أسرة سليمة تكون حجرا أساسا في صرح الأمم، إذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد بفسادها كل شيء فيه. فكيف سيبنون أمة وهم كالحجر الهش الضعيف، إذا وضع في أساسات البيوت تقوض، وأصيب البنيان بكامله بالعرج والانهيار. مع هذه الوضعية غير السوية التي تفضحها الأمثال الخاصة بالمجتمعات العربية، وتعكس بوضوح ما تؤمن به حتى تلك الموجودة على مرمى البصر من موقع أوروبا، والتي لم تتأثر بالطريقة الأوروبية فاحتفظوا بأسلوبهم الخاص، أعتقد أننا بحاجة إلى جامعات تؤهل أبناءنا للزواج قبل الإقدام على قراره الخطير.. جامعات تعلمهم كيف يصنعون أسرا صالحة، وكيف يحافظون على شركائهم في مشروع الحياة، امتثالا لقول المربي الكبير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم «خيركم خيركم لأهله». جامعات تلقنهم كيف يكونون آباء صالحين، لا يصنعوا أطفالا مدمرين تائهين في الطرقات. المصيبة أننا قوم لا نتعلم، توفرت الجامعات أم لم تتوفر، ويبقى حالنا على ما هو عليه، ويشيب كل منا على ما شب عليه، ونكرر ذات الأسلوب في ترك السعادة الزوجية تتسلل فارة أمام أعيننا بسبب الجهل بقواعد التعامل المثالي بين الأزواج الذي تتحكم فيه التقاليد والأعراف، والذي أثبتت الأيام عدم جدواها والذي يُبقي الكثير من الزيجات في دوامة من التيه وانعدام اللباقة وخشونة التعامل الذي يؤدي لفساد الذوق العام، المؤدي بدوره للبلادة التي تنزع عن الأزواج أميز ما فيهم، وهي رهافة الروح وجمال الإنسانية، ولا تترك لهم من الحياة الزوجية إلا مجموعة من العمليات البيولوجية الضرورية لاستمرار النوع. فكم هم الرجال في مجتمعاتنا العربية-إلا من رحم الله- لديه الشجاعة بأن يرفع صوته وأمام كل من حوله ليصرح بحبه لزوجته دون خجل ولا شعور بأن ذلك يخدش رجولته وينقص منها؟ كما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سؤل عن أحب الناس إليه، وذلك في الحديث الذي روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص في صحيح الترمذي: يا رسول الله! من أحب الناس إليك ؟ قال: عائشة”. فنعم السلوك ونعم القدوة..