سمكتان تسبحان في حوض مائي ضحل وصغير يستقر على طاولة امام نافذه غرفة تشغل منتصف الكادر في لقطة متوسطة، حركة السمك في المساحة المحدودة، والدخان المتصاعد من سيجارة على طرف الطاولة، والصمت الثقيل يكسره صوت ضربات الساعة جميع هذ الامور تذكي التوتر في هذا المشهد، بالاضافة الى الكاميرا غير المستقرة والمهتزة عندما تنسحب قليلا الى الخلف بعد اكثر من عشر ثواني، فتكشف عن وجود غابيتا (لاورا فاسيليو) التي تدخن بقلق منتظرة شيئا ما من الجهة المقابلة، وبعد ثواني من الترقب يأتيها صوت اوتيليا (اناماريا مارينكا) من خارج الكادر لتبلغها بانها موافقة... بعد ان تشكرها بهدوء تنهض غابيتا لتستكمل اعداد حقيبة السفر. بهذا المشهد الافتتاحي يبدأ الفيلم الروماني "4 أشهر و3 اسابيع ويومين"، اخراج (كرستيان منجيو)، ليضعنا في جو من غموض وترقب واضطراب وقلق يشبه شخصيات الفيلم، المتأثرة بالجو العام المحيط الذي يعود الى منتصف ثمانينات القرن الماضي، عهد النظام الشيوعي في رومانيا، والذي يعد الاجهاض واحد من جملة الامور التي يحظرها هذا النظام ويعاقب عليها بالسجن، هذا ما يشرح الجو المتوتر الذي يسود الفيلم، كما ان عدم الافصاح حتى منتصف الفيلم تقريبا عن الامر الذي وافقت عليه اوتيليا وباشرت بتحضيره، يضاعف من الاحساس بالغموض والسرية. غابيتا واوتيليا طالبتان جامعيتان وصديقتان تشتركان بالغرفة نفسها في السكن الجامعي، غابيتا متورطة بحمل غير شرعي، فتود التخلص من الجنين وبما ان الاجهاض محظور في رومانيا، يتطلب هذا الالتزام بسرية تامة تكفل حمايتها من السجن من جهة، وتفرض حالة توتر وخوف من افتضاح الامر من جهة اخرى، وتتفق مع شخص يدعى بيبي ليقوم باجهاضها في احدى غرف فندق آمن اعتاد بيبي التعامل معه، ثم تسأل اوتيليا ان تساعدها في انجاز الامر بسرية، وباقتراض مالا اضافيا لتغطية تكلفة العملية برمتها. كباقي الافلام التي تدور احداثها خلال يوم واحد، كذلك "4 اشهر3 اسابيع ويومين" اذ من شأن ما يحدث في طيات هذا اليوم ان يعصف بحياة البطل ليشكل نقطة تحول، فتتغير حياته بين ليلة وضحاها الى غير رجعة، فماذا حصل ل اوتيليا في ذلك اليوم؟ ان كانت الاحداث تدور حول اجهاض غابيتا بسرية، الا ان الدور الرئيسي تلعبه اوتيليا اذ تحمل على عاتقها مساعدة صديقتها وتسهيل ما يلزم لانجاز الامر، فتذهب لاقتراض النقود من حبيبها آدي من الجامعة، ثم تذهب الى الفندق الذي من المفترض ان تكون غابيتا قد حجزت فيه، لتكتشف انهم لا يأخذون بحجز غابيتا على الهاتف، بعدها تحجز في فندق اخر لكن بسعر اعلى، ثم تذهب لاحضار بيبي، وتطلب من غابيتا ان تلاقيهما في الفندق. لن تسير الامور على ما يرام بعد ان يدرك بيبي عدم التزام غابيتا بشروط الاتفاق بينهما، بداية وجود اوتيليا الذي يوسع من دائرة العالمين بالموضوع مما اثار غضبه وارتيابه، ثم تغيير الفندق الآمن المتفق عليه، وادعاء غابيتا بان اوتيليا اختها، الى عدم توفير مقابل مادي مناسب، فما ان يلتقي ثلاثتهم في غرفة الفندق، حتى يؤنب بيبي غابيتا على عدم التزامها بالاتفاق، ويمن عليها بمخاطرته بحياته، ويباشر باسلوب ابعد ما يكون عن التعاطف الانساني، باعطائها تعليمات محددة ما ان تعرضت لاي مضاعفات جراء وضع الانبوب المؤدي الى الاجهاض بداخلها، وتتصعد الامور عندما يكتشف بعد فحصها انها حامل باربعة اشهر وليس بشهرين كما كانت قد اعلمته، واخلاق التاجر التي يحملها بيبي جعلته بعد ذلك يرى في عملية الاجهاض تلك صفقة خاسرة غير مجدية، مما دفعه الى التهديد بالانسحاب او دفع مبلغ يتلاءم ومقدار المخاطرة التي قد تودعه السجن، لكن الفتاتين لا تملكان المال الكافي، وبيبي بطبيعة الحال ليس بذلك الطبيب الملاك، فحاولت اوتيليا ان تصل معه الى حل بتأجيل الدفع، لكن لا شيء يحتمل التأجيل مع نذالة بيبي، فما كان الا ان بذلت اوتيليا كل نفسها من اجل صديقتها غابيتا الغارقة في انانيتها، وكان جسدها هو الثمن ثم جسد غابيتا من بعدها. ماذا بعد ان بذلت اوتيليا جسدها؟ وما الذي يجبرها على كل هذا الالم... وعلى دفع ثمن اخطاء غابيتا؟ هل هي الصداقة ؟ في المقابل هل كانت غابيتا ستقدم كل هذه التضحيات من اجلها؟ عندما غادر بيبي وبعد حوار قصير بين اوتيليا وغابيتا، ساد صمت جعل اوتيليا تدرك ان صديقتها قد خذلتها واستغلتها وكذبت عليها، وهذه من اللحظات القليلة التي يستخدم فيها المخرج لقطة قريبة تُظهر اوتيليا في لحظات الصمت والتأمل ثم الحوار دون ان نرى ردود افعال غابيتا، لاهمية لحظة الاكتشاف هذه بالنسبة لاوتيليا، والتي ستشكل نقطة انعطافها، لا في قطع العلاقة مع غابيتا لكن في الكيفية التي ستنظر فيها الى الحياة بعد ذلك. تواصل اوتيليا الانتقال من خيبة امل الى اخرى، ومن محك الى اخر جعل علاقة الاخرين بها موضع عدم ثقة، فمن حبيبها آدي الذي اكتشفت عدم استعداده لتحمل اي مسؤولية ما ان كانت هي الحامل، الى اهله واصدقائهم فالحياة باسرها. ربما لهذا كان عليها ان تضحي، لان تلك التضحية كانت عتبتها لمعرفة واكتشاف الحياة والعلاقات الانسانية من جديد، والالم هو الثمن الطبيعي لهذا النوع من المعرفة. انسان المرحلة يشبهها الفيلم الروماني "4اشهر 3اسابيع ويومين" انتاج 2007، يستحضر من الذاكرة الفيلم الايطالي "المغامرة" انتاج 1960 للمخرج مايكل انجلو انطونيوني، المنتمي الى تيار الواقعية الايطالية الجديدة النقدية، فاذا كان الاخير يكشف تركيبة الانسان الحديث ومقدار الوحدة والعزلة التي يحياها، فان الاول يكشف تركيبة انسان المرحلة الشيوعية والوحدة والعزلة التي يحياها في ظلها، فان يبدو للوهلة الاولى ان الفيلم يتحدث عن معاناة غابيتا في التمكن من الاجهاض سرا في ظل نظام يحظر هذه العملية، لكنه في حقيقة الامر، يتحدث بشكل اوسع عن انسان تلك المرحلة قبل سقوط جدار برلين الذي نستدل عليه من مكان وزمان الحدث، بالاضافة الى بعض التفاصيل اليومية الصغيرة؛ كالدخان والصابون ومستحضرات التجميل التي تباع في السوق السوداء في سكن الطلاب الجامعي الذي تسكن فيه بطلتا الفيلم غابيتا واوتيليا، وبما ان الشخصيات وقيمها هي انعكاس لمجتمعاتها، فتصبح القسوة الخداع والكذب والانانية... قيم تلك المرحلة، والوحدة والقلق والتوتر وعدم الثقة مشاعر انسان تلك المرحلة، وكما ينتقد انطونيوني سخافة الطبقة البرجوازية في ايطاليا، كذلك منجيو ينتقد سخافة الطبقة المتعلمة في رومانيا، التي تجلت في مشهد عيد ميلاد أم آدي –حبيب اوتيليا- حيث على مدار سبع دقائق نستمع لمشاغل واحاديث افراد النخب المتعلمة الفارغة، لا شيء سوى الاكل والثرثرة والاستعلاء على غير المتعلمين، ويوظف المخرج لقطة واحدة طويلة ثابتة بكاميرا مهتزة على مدار السبع دقائق - مدة المشهد- لتشعرنا بالملل من احاديثهم، وبغربة اوتيليا التي يتم تجاهلها في وسطهم. عالقون في المكان قد تعمد المخرج في فيلمه هذا تعطيل السمات المميزة للسينما، واعادتنا الى زمن المسرح المصور في الاسلوب، حيث اغلب الأحيان الكاميرا ثابتة في زاويتها مع استخدام التقطيع والانتقالات المونتاجية في حدها الادنى والاعتماد بشكل رئيسي على اللقطة الواحدة- اللقطة المشهد- الواسعة غالبا، والطويلة زمنيا؛ قد تستغرق سبع دقائق في بعضها، كذلك استخدام الحد الادنى في التنويع في احجام اللقطات، ومن زوايا التصوير فلا تظهر وجهات نظر ابطاله، كما ان الكاميرا كانت ثابتة في مكانها لكنها مضطربة في اهتزازها. يأتي اسلوب الفيلم هذا ليوازن بين العقل والعاطفة او الاحساس، فمن ناحية يجعلنا نتوحد كمشاهدين مع ثبات الكاميرا لنشعر باننا مكبلون... نشهد دخول الاشخاص، حركتهم داخل الاطار، ثم خروجهم بينما نحن عالقون في المكان، والشخصيات المفترضة على الشاشة تمتلك حرية لا نمتلكها نحن كمشاهدين، واهتزاز الكاميرا مع غياب زاوية وجهة نظر الابطال، يجعلنا نختبر حالة الانسان المضطرب في ظل النظام الاشتراكي الصارم والجامد الذي يختفي فيه تعدد وجهات النظر، فليس سوى زاوية واحدة للنظر وثبات قاتل، مقابل هذا الاحساس يمنح المخرج عقلنا فرصة للتفكير والتأمل، من خلال ايقاع الفيلم الهادئ، وبخلق مسافة بيننا وبين عناصر وشخصيات الفيلم داخل الكادر، فنحافظ على نظرة موضوعية اتجاهها من خلال غياب زوايا وجهات نظر الشخصيات الذاتيه، وبتوظيف لقطات بعيدة ومتوسطة تغلب على اسلوب الفيلم، وتمنعنا معها من الدنو من وجوه ومشاعر الشخصيات الداخلية فلا نتعاطف معها، او نتبنى مواقفها، فالمخرج لا يريدنا ان نندمج عاطفيا مع شخصيات الفيلم انما ان نختبر الشعور الذي يفرضه وجود النظام الاشتراكي في رومانيا على انسان تلك المرحلة. يحاول الفليم ان يقارب الواقع في اعتماده على الاضاءة الموجودة في المكان مسبقا مثل؛ الكريدورات والشوارع المظلمة والتي نخوض فيها مع البطلة ذات الشعور بالخوف من ارتياد المجهول، كذلك الابقاء على الضجيج، والمؤثرات الصوتية الطبيعية للاماكن العامة، والاستغناء عن الموسيقى التصويرية، وهذه بعض الامور التي تتقاطع مع قواعد الدوغم95، التي تسعى الى تخليص السينما من اي زخارف واضافات او مؤثرات صوتية وبصرية. رغم الاسلوب الذي يقترب من المسرحي – المقصود- الا ان الفيلم لا يفقد القدرة على شد المشاهد، بفضل اداء الممثلين المتميز على وجه الخصوص اوتيليا (اناماريا مارينكا)، كما ان مساحات الصمت الكبيرة في الفيلم، لعبت دورا يفوق في اهميته الصوت والحوار في ايصال الفكرة والاحساس بالتوتر والقلق والترقب والحزن والالم. كما اسلفت قد يبدو ان الفيلم يتحدث عن الاجهاض لكنه يتحدث عن كل شيء الا الاجهاض، فهو يأخذنا بعيدا عن تقيم الاجهاض اخلاقيا، لنتأمل العلاقات الانسانية؛ الصداقة والحب والثقة، والحياة في ظل الفكر الشيوعي والنظام الاشتراكي، الذي يُضيق على الانسان هامش الحرية، تماما كالسمكتين اللتين تسبحان في ماء ضحل في المشهد الافتتاحي من الفيلم وعلى خلفية الحوض هناك صورة باهتة وغريبة لمدينة. "4 اشهر و3 اسابيع ويومين" الذي قد يشير في عنوانه الى عمر الجنين، يكتسب مستوى اخر من الدلالة، فهو تجربة النظام المراد اجهاضه والتخلص منها نهائيا ليصبح في طي النسيان، فبعد ان تلقي اوتيليا الجنين في النفايات وتعود الى صديقتها في الفندق، ينتهي المشهد الاخير وهما جالستان على طاولة المطعم، فتسأل غابيتا اوتيليا: هل دفنتيه؟ فتجيبها: هذه اخر مرة نتحدث فيها عن هذا الموضوع؟ الفيلم بصورته القاتمة امتدادا لافلام الواقعية الايطالية الجديدة النقدية، التي تعرض الواقع بقيم وسلوك افراده لتنتقده. رانيه عقلة حداد هذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته ''الفوانيس السينمائية''