..مثلما قدمت لنا امريكا اللاتينية ابداعها الروائي عبر روائيين سلطوا الضوء على غرائبية الصراعات وسحر الاساليب ومنهم (بورخس، ماركيز، جورج امادو)، فهي تقدم سينما لها خصوصيتها الابداعية لاتقل سحرا وغرائبية، بل ستتفوق، لما للسينما من فضاء شاسع يحتضن تلك الرؤى ،ولما للصورة من سحر فاعل. ومن هؤلاء المخرجين يقف(فرناندو ميراليس) في فيلمه(مدينة الله) المأخوذ عن رواية البرازيلي (باولو لينس) ليقدم لنا وباسلوبه الوحشي ثيمة الصراعات الدموية التي يمتزج في داخلها الالم والمشاعرالانسانية النبيلة معا، مثلما يمتزج الموت عبرالمخدرات وصراع المافيات باحلام وعواطف انسانية.صورة عن واقع غرائبي شكل مادة خصبة للابداع... ثيمة التهميش الاجتماعي والعنف منذ اللقطة التي تبدأ بحد السكاكين وتناوبها مع ذبح الدجاج والمطاردة وبايقاع سريع ووحشي يزج بنا المخرج الى أتون ثيمة العنف التي تدور حولها حبكة الفيلم..العنف الذي يسكن نفوس مراهقي المدينة من المهمشين.. كينونات يأخذها التمرد ألغرائزي الى إرهاصات العنف السلوكي.. جنون حركة الكاميرا والتقطيع يوازي جنون النزق والعنف الذي يسكن( الفيلم الحياة) .. وداخل هذا الفضاء الهستيري يتحرك الشاب( روكيت) ابن البيئة والحي ذاته، لكنه يرفض ان يكون متمردا او شرطيا، ويختار الانحياز الى أحلامه الأولى مع الصور الفوتغرافية والكاميرا..ويقع في الوسط بين(ليل دايس) وعصابته وبين الشرطة.. فيقول( في مدينة الله ان هربت يمسكوا بك، وان بقيت يمسكوا بك.. كانت هذه الحال منذ طفولتي)، وليعود بنا (الفلاش باك) وعبر حركة كاميرا بانورامية الى ذات الوقفة في الطفولة ،وليبدأ السرد الاسترجاعي الى مرحلة الستينات من القرن العشرين في ملعب ترابي لكرة القدم ويروي عبر صيغتي (المتكلم الأول والعارف بكل شئ) متداخلة، حيث يخبرنا عن أول التشكل المافيوي لعصابة ( تاندرو تريو) المكونة من ابناء الحي (شاغي، كليبر،غوس) متبوعين بالصبين(ليل دايس، بيني)..ويعترف (روكيت) بانه لم يتلك الشجاعة ليلحق بأخيه (غوس). وهنا تتأسس خلفية الاحداث لتكشف عن شخصية (روكيت) وخياراته السلوكية المغايرة التي تدفعه الى عشق التصوير الفوتوغرافي..يهجم الثلاثة على سيارة قناني الغاز القادمة الى الحي متبوعين من الصبين(ليل دايس) بنزعته العدوانية و( بيني).. لكن هذه العصابة من الهواة حسب تعبير الراوي( روكيت) الذي يخبرنا بان سكان هذا الحي من النازحين من الفيضانات وأعمال الحرائق المتعمدة في أحياء الأقليات.. تكشف هذه الخلفية عن مستوى القهر الكامن في نفوس الصبية والمراهقين في هذا الحي، والذي يحرك سلوكياتهم ونزعتهم الى العنف كرد فعل على التهميش والفقر وانعدام الخدمات والاهتمام الحكومي بهذه الطبقات المهمشة التي تتعرض للنبذ الطبقي والاجتماعي..ويستمر التتابع السردي وتأجيلاته عبر إمساك الخطوط السردية بيد الراوي( روكيت) ..ينفرط عقد عصابة الهواة بعد الحادث الدموي الذي أعقب عملية سطو على نزل للدعارة يقوم به الثلاثة ،بالإضافة الى الصبي( ليل دايس) الذي ترك خارجا ليعطي اشارة حين تحضر الشرطة. ويقوم بخديعة الثلاثة عن حضور الشرطة ويهربون.. لكن مجزرة تحدث في النزل ولم يخبرنا الراوي عنها ضمن تقنية (التأجيل السردي).. وينفرط عقد عصابة الهواة بعد عودة (كليبر) الى الكنيسة ورجوع (غوس )للعمل مع والده ببيع السمك ثم غوايته لزوجة المخبر السري (شورتي) وهروبه من الحي ..اما الاخير ( شاغي) فيقتل بوشاية المخبر السري( شورتي) للشرطة التي تطارده بعد القاء القبض على (شورتي) لقتله زوجته التي خانته مع ( غوس).. ومع حضور الصحفيين الى مسرح الجريمة تتشكل رغبة( روكيت) بالحصول على كاميرا وممارسة التصوير الفوتغرافي الصحفي..ويخبرنا بانه اشترى كاميرته الاولى في عمر 16 حيث تشكلت علاقته بالتصوير وعشقه لهذا الفن..ثم ينتقل مسار السرد للكشف عن مافيات المخدرات وصراعها الدموي من اجل السيطرة على اسواق التصريف والبيع ،ومن خلال مايسمى بتقنية (المشاهد المستقلة ) والذي تضم لقطات منعزلة التكوين تقوم بعملية التكثيف السردي لفترات زمانية طويلة .. ويتم ربط هذه المشاهد الغير متصلة وضمن سرد وتعاقب سريع للاحداث مع مصاحبة التعليق وهي تصعد من وتائرية الايقاع.. وهذا الاسلوب يتكرر كمعالجة للزمن والاحداث الشاسعة.. ويبدأ ظهور الصبيين (ليل دايس و بيني) ليمسكا بزمام امور المخدرات وليحدث التنافس مع هذا التشكل المافيوي الدموي. وهنا يتكثف مسار السرد بالاستناد الى متابعة هذه الشخصية النزقة والمهوسة بالعنف والتسلط التعويضي عن خلل الشخصية.. وهنا عودة الى تكملة مافعله ( ليل دايس) في ليلة السطو على نزل الدعارة من قبل الثلاثي(شاغي، كليبر،غوس) التي تحدث بها الراوي وعرضها دون ان يكمل ماحدث ولم يكشف بوضوح عن الفاعل.. هذه صورة من صور الاستخدام لثنائية (السرد والتأجيل) التي يعتمدها الفيلم وتصبح من آليات اشتغاله وجمالياتها..لقد روى الصبي(ليل دايس ) شهوته ونزقه الدموي بمجزرة القتل الجماعي وهي يقهقه امام مشاهد التوسل واطلاقه للرصاص ثم يهجر المدينة وحين يلتقيه ( غوس) شقيق الراوي(روكيت ) ويضربه يقوم بقتله. ويستمر تتابع الرمي من قبل الصبي وبهستيريا ليكشف عن شهوة القتل لديه وليظهر بعمر 18 مسيطرا على مدينة الله ومتزعما لمافيا دموية. ويدخل صراع تجارة المخدرات وبذات الدموية لتصفية منافسيه .هذه شخصية (ليل دايس) الذي يتحول الى (ليل زي) .ويستمر الصراع بدخول العديد من الشخصيات المؤجلة سرديا لنصل الى النهاية حيث تأتي الفرصة ل (روكيت ) ليصبح مصورا صحفيا مهما عبر صوره الفوتغرافية لعصابات المافيا وزعمائها ويختتم بحصوله على صور تكشف عن تورط الشرطة مع عصابات المافيا وحمايتها لها، ونهاية(ليل زي) الدموية مقتولا............. ميكانزمات السرد الوحشي ..يستخدم المخرج اقصى طاقة الانزياح إزاء ميكانزمات(آليات) اللغة الفيلمية، لمضاهاة ومجاراة ومحاكاة وحشية الصراع الذي تعيشه الكينونات ضمن الفضاء الجغرافي ل (مدينة الله) الذي يعكس جوهر الصراع في المجتمع البرازيلي خاصة وامريكا اللانيتية عامة..إنها كينونات مهمشة ومنبوذة ضمن أتون النبذ الطبقي الاجتماعي ،تعيش في عزلتها خارج مدينة( ريو دي جانيرو)،لتتبلور سلوكياتها ومشاعرها القاسية، ولتعايش وتمارس وحشيتها وعنفها الدموي ازاء المجتمع النابذ لها، ومن خلال شريحة المراهقين والشباب التي تؤسس مافيات السطو والمخدرات والسرقة.تختار هذه الشريحة العنف للرد على الطرد والنبذ الاجتماعي وانعدام الاندماج وحق التعليم والتأمين الصحي وفرص العمل.. وازاء معالجة هذه الحبكة بمقترباتها الحياتية الواقعية، يشيد المخرج رديفا لشراسة العنف بخيار( السرد الوحشي) ان جاز لنا القول.. وتأتي هذه الخيارات منذ العتبة الاولى للدخول الى فضاء الفيلم ومشهد ( حد السكين وذبح الدجاج والمطاردة في ازقة المدينة من قبل مافيا المراهقين واسلحتهم).. وتأتي صيغ هذا (السرد الوحشي) من خلال القطع المونتاجي الحاد وحركة الكاميرا واستخدام النسق الفوتغرافي (حين يوقف الحركة ثم يعاود الاستمرار للتركيز على الشخصية التي سيدور حولها السرد) ثم تأتي التكوينات البصرية الوحشية..كسر السلاسة وتصاعد تواترية الايقاع الذي يتماهى بشراسته مع (السرد الوحشي) الذي يتجسد وضوحا في التناوب بين (السرد وتأجيل السرد) من خلال الراوي (روكيت ) الذي يقود مسارات السرد ويحدد توقيتاته بين الاخبار والتأجيل..حين يروي لنا ثيمة الاحداث عبر الشخصيات المجسدة يختار السرد حول الشخصية كما يختار التأجيل لشخصية اخرى..وتتناوب وجهات النظر السردية بين(المتكلم الاول،العارف بكل شئ،الشخص الثالث،الموضوعي)، وهو تناوب في مستويات التبئير وانماطه ( الداخلي، الخارجي، المشهدي)..وتتحقق ثنائية الاندماج والتماهي عبرالدفع بالمتلقي الى المركز البؤري للأحداث من جهة، وكسر عناصر الاندماج والتماهي عبر الطرد الى خارج بؤرة الاحداث من جهة اخرى.. انها لعبة المسافات التجاورية بين الثيمة الفيلمية والمتلقي من خلال خلق المسافات الجغرافية المتعددة المستويات والمتنوعة بين (الحميمة، الشخصية، الاجتماعية، العمومية) حسب تصنيفات الانثروبايلوجي( دي هال)**.. كما يستخدم تقنية(المشاهد المستقلة) ضمن اليات التكثيف السردي ..هذا اللعب الوحشي الحر وتحقيق الانزياح على كل الاصعدة السردية والجمالية لتكون في حالة انسجام مع الصراع المتوحش والدموي داخل منظومة الواقع.. ومثلما يمتلك هذه (السرد الوحشي) مرجعيته الواقعية فانه يمتلك مرجعيته الابداعية العائد الى وحشية نصوص الشاعر(لوتريامون) في( اناشيد مالدورو) والواقعية السحرية لروايات(غابريل غارسياماركيز)ومنها(مائة عام من العزلة) وروايات (جورج امادو) ومنها(كانكان العوام)..انه الواقع الغرائبي الذي يزجنا به الفيلم وصراعه ..واقع امريكا اللاتينية وجمهوريات الموز وهي تعيش اعنف الصراعات المجتمعية.. يبدأ الفيلم من ذات المشهد الذي ينتهي به وبذلك تتحقق دائرة الاغلاق السردي التي هي دائرة الاغلاق الحياتي وهي تطحن مصائر الكينونات المتصارعة..انغلاق دائرة العنف ليوحي بالدوامة والتيه الذي تعيشه هذه الكينونات. ويبقى الكائن الرافض هو الشاهد والراوي الذي يمسك خيوط السرد ، كاشفا الاسرار لتشكل النبذ كفعل والعنف كرد فعل اجتماعي.. لكن دورة العنف تتحرك باصابع الشرطة كاداة للسلطة وممثلة لها..ان دورة التيه والعنف هي نتاج السلطة حيث تضع الغطاء للمافيات في صراعها وتبتزها مقابل السكوت عن جرائمها.. ومثلما هو التهميش والنبذ الانساني لهذه الطبقات المسحوقة فان صراع العنف والمافيات هو الآخر فعل سلطوي وبغطاء الشرطة.. وهكذا يوجه المخرج ادانته الى السلطات التي تهمش الطبقات المسحوقة وتقودها الى العنف وتحرك خيوطه وتديم استمراريته الدموية..لقد امتلك الفيلم جمالياته البصرية من جماليات الوحشية (السمعية البصرية )التي قدمها،عبر الايقاع المتشظي الداعم لوحشية التناوب في البناءات السردية بين سلسلة المواجهات المؤسسة ل (الاهداف والصراع والكارثة)مقابل سلسلة الانتقالات المؤسسة ل (رد الفعل والمأزق والقرار)**..فيلم يؤسس لبصمة جمالية واسلوبية ستترك اثرها في القادم من النماذج الفيلمية، كما ستترك اثرها في حرية اللعب الخارج عن الاقيسة والتقنين والنمذجة الفيلمية،لكنه خروج واعي وانزياح مدرك لممارساته بما حقق مديات مفتوحة لفضاء للابداع السينمائي وتهشيم لكل التابوات وعلى كل الاصعدة عبر الانزياحات السردية والجمالية.................. اوروك علي هذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته ''الفوانيس السينمائية''