تحاول هذه الورقة أن تؤسس لفهم جمالي ذو بعد نظري ينطبق على عموم الخلق الفيلمي أو ما يعرف بنحو السرد البصري.تتحقق الرؤيا الإخراجية في الفيلم القصير تحديدا من خلال مجموعة من العناصر التي تكون الحجر الأساس للعملية الإبداعية كفعل تخيليي يخضع لمستلزمات الحكي البصري.هذا الحكي الذي بدوره يؤسس لفعل الكتابة السيناريستية الخاصة بالسينما كجنس له خصوصيته وطبيعته ومنها يستقي هويته . غير أن طابع الكتابة الفيلمية بدءا من الفكرة كمنطلق متميز ونابع من جوهر التجربة الإنسانية يمر بدوره عبر سلسلة من التعديلات والتنقيحات حيث يتقاطع مع محطات العمل الفني وعلاقاته المرتبطة بجماليات التكوين والخلق، وذلك وفق بنية سردية خاصة ومميزة لكل فيلم على حدة.تتجاوز الرؤيا الرؤية لكونها تحمل لدى المخرج نوعا من الإحساس العميق بكينونة الكائن ومحيطه كما أنها تتجاوز التفسير السببى للظواهر بإدراك يرى خلف الواجهة بنوع من الحبور الصوفي الذي يقرأ العالم من خلال بواطن الأشياء وليس ماديتها، ودلك حين تحل الإشارات محل العبارات. لذلك فمن خلال عملية تطويع وحشية الظواهر لخلق نظام من العلاقات قد لا يتراءى للمشاهد العادي بالعين المجردة لكونه يستلزم رؤيا تنسج حولها شبكة من العلامات والرموز ،كما ينسج الحرير حول دودة القز.وعندما يحصل هذا الإحساس بالعالم تتدافع الأفكار ككرات من النار لتلبس أشكال وأساليب من التعبير السينمائي الذي يتحقق في شاعرية الزاوية أو كثافة اللقطة أو غيرهما،مما يتيح تعدد القراءات وتنوع التأويلات وهو ما يصطلح عليه بالعمل المفتوح حسب أومبرتو إيكو. إن هذه الرؤيا الإخراجية ذات النفس الشاعري تتمحور حول ثلاث أبعاد أساسية وهي: البعد الفوتو/ تشكيلي البعد التقني/ سردي البعد الرمزي/ ثقافي البعد الفوتو/تشكيلي إن أصل اللقطة/ Plan أو ما يعرف في التصوير الفوتوغرافي بالإطار الثابت الخاضع للتركيب يستلزم مجموعة من العناصر التي تدخل في صميم عملية التصوير الفوتوغرافي كقانون الأرباع الثلاث،ومراكز القوة،وعلاقة النظرة بالمسافة،والمستويات الثلاث لما هو في الواجهة وما في الوسط وما في الخلفية.هذه العناصر وغيرها كالأفق المنظور وهندسة الخطوط تنظم بنية العلاقة بين إطار الصورة والمعاني المتولدة عنها.الشيء الذي يسمح بسلسة من المعاني التي يساهم كل من الصوت والصورة، اللون والحركة، الاتجاه والضوء في تشكيل ما يعرف بنحو السرد البصري. إذا كنا ندرك العالم من خلال تمظهراته البصرية والحسية الأخرى في الهنا والآن وفق سلسلة من المؤثرات والذكريات،فالشريط الفيلمي يشتغل بنفس الأدوات على اعتبار أنه يعيد تنشيط الذاكرة لعلامات نراها كل لحظة في محيطنا،الفارق هو طبعا تلك العلاقة الملتبسة بين القبول بلعبة التخيل وفق أفق تحرري من إكراهات الواقع باعتباره سلطة قهرية لا يمكن اللعب بصيرورتها وأشخاصها سوى من خلال فعل التخييل كعمل حر وليبيدي. كل ما يبنين العالم ويبينه بل يخرجه من العتمة إلى النور في أشيائه وشخوصه في ألوانه وأحجمه في كثله وفضاءاته يصبح بمثابة كتاب له أبجديته التي تقرأها العين فتتعرف على البيوت وأكسيسواراتها،على المدن وخرائطها،على الناس وهيآتهم بل على تعابير وجوههم ولغاتهم الجسدية، بل تتعرف أيضا على المظاهر الطبيعية للمكان بسمائه وماءه وكل حيواناته وفق جمالية المكان حسب تعبير غاستون باشلار. من هنا يدرك الفنان الفوتوغرافي والتشكيلي الذي يسكن جسد المخرج وعينه هذه العناصر ليقاربها من موقع مرهف ومن زاوية مغايرة تستنطق المسكوت وتعانق العالم وذلك من خلال لقطة سينمائية كافية وكفيلة لوحدها أن تكون كما قال فيريديريكو فلييني في كتاب حول فيلمه الشيخ الأبيض، لوحة مستقلة بذاتها تجمع بين ما هو ثابت ومتحرك بل تكثف وتختزل الفيلم برمته . من هنا تلتقي أيضا الصباغة بالرؤية الإخراجية للفيلم في نسج تلك العلاقة المركبة بين ملكوت اللون والنور وملكوت الأحاسيس بواسطة الحركة ومساحات التعبير. ويكفي أن ندخل رؤوسنا وسط ورق مقوى على شكل عجلة بها مجموعة من المربعات الصغيرة لندرك كيف أننا من نفس الموقع وعلى دائرة بقطب 360 درجة نرى بمجرد استدارة ب 30 درجة العالم في شكل مغاير وبهيأة مختلفة تماما. إن فعل الحكي الفيلمي عكس ما هو في المسرح أو فن الأوبرا لا يمرر بالضرورة عبر مسالك الصوت،ولكن بدرجة أدق عبر فنون التعبير الجسدي وإيحاءات النظرة،أي عبر الأفعال الإنسانية ضمن علاقات الجسد بالمجال المهيكل للثابت والمتحرج والتي تشكل أنطولوجية وروح الفوتوغرافيا والتشكيل بحيث أن كل درجة ضوء ،كل انحناءة،كل مسافة بين الجسد والشيء تصبح ذات مغزى لتهب شعبة من الدلالات والخلفيات.هذه الدلالات لا تنفصل عما هو طبيعي بعناصره الأربع المعروفة،والحيواني ليشكل الإنساني والطبيعي والحيواني – روايتي موبي ديك أو الشيخ والبحر،ثالوثا تتمحور حوله ثنايا الحدث ليغني من جماليات الفضاء بأبعاده الشاعرية والسيكولوجية . وكلما كانت رمزية الفضاء غنية كلما أضيف لأفعال الشخصيات عناصر القوة الدرامية.وتعمد بعض الأفلام للتركيز على جماليات المكان الغابات والبحر والمدن المتخيلة لتخلق معادلا موضوعيا حسب إليوت لإيصال كثافة المعنى.كما تصبح هذه العناصر الطبيعية عاملا مؤثرا في رغبة العين على الاستمتاع أولا بجمال الكون وبعض الفنون الأخرى كالرسم والنحت والتلوين نموذج من الفيلم الكوري عاشق للخمرة والنساء.يتبع عزالدين الوافي / المغرب كاتب وناقد سينمائي من المغرب ''الفوانيس السينمائية''