" عائد إلي حيفا " من جديد ولكن هذه المرة ... إلي الناصرة ! تختلف التواريخ و الأحداث و الأماكن ، لكن المأساة تعيد تشكيل الوجع في تكرار نازف ، بأسماء جديدة ، و مناطق أخري أكثر عمقا في ذاكرة الوجع القديم، لتمتد إلي تاريخ الانهيارات الإنسانية ، و جغرافيا الوطن المستباح . فالوطن لم يعد سوي " كرسي متحرك " ، يعتليه المتسلقون قسرا . تلك هي الرسالة التي تعمدها المخرج مصطفي النبيه ، في فيلمه الجديد " غزة 2009 " ، والذي أنتجته شركة فلسطين للإنتاج الإعلامي حديثا ، خلال نصف ساعة، تروي أحداث "عائد جديد " مخطوف، ولكن هذه المرة إلي الناصرة. بداية الحكاية : ياسمين .. صغيرة كانت تتعثر بالشواهد و القبور ، تقف بحزنها علي قبر أبيها الشهيد ، لتقرأ الفاتحة ، وهناك تبدأ الحكاية ياسمين ابنة العشرة أعوام ولدت من أم " يهودية " ، اعتنقت الدين الإسلامي ، قبل أن تقترن بالشاب الغزي رامي القدرة ، ليعود بعائلة صغيرة من الأراضي المحتلة و يستقر في شمال القطاع . غير أن وتيرة الفيلم التصاعدي ، تبدو للوهلة الأولي خارج دائرة القصة المحكية ، حيث يبدأ المخرج النبيه فيلمه بمشاهد لمساجد و مآذن مدمرة ، و غربان تصعق ، و جرافات ، ومن ثم يتجه إلي نسخ خيوط السرد ، دون أن يتطرق للتفاصيل بشكل حاد ، مشكلا رؤية بصرية مؤثرة بمساحات فضفاضة . ورغم المكونات البصرية الملحة علي جعل الفيلم غني بالدراما الموجهة، إلا أن واقعية الأحداث تفرض جدتها علي جوهر الفيلم . يشير المخرج النبيه إلي ذلك قائلا : " التفاصيل و الدلالات التي تترائي خلف المشاهد، تحمل رسالة الفيلم الإنسانية، الأمر الذي يثير التساؤلات حول تأطير الفكرة " . ليش تركتنا ؟ غير أن التدرج الذي استخدمه النبيه يوضح بعض هذه التفاصيل الملتبسة أحيانا ، حيث تبدأ ياسمين بسرد القصة ، ابتداء بآخر مرة رأت فيها إخوتها الثلاثة الذين خطفتهم والدتها جيليت، تاركة ثلاثة أطفال آخرين، بينهم رضيعة كانت حينها لم تتجاوز 27 يوما ، وتكبرهم ياسمين. تقول الصغيرة : " رجعت من المدرسة ، وكانت ماما بتحكي عبري علي الجوال مع تيتا هناك .. بعد هيك اخدت اخوتي و أعطتني شيكل و حكتلي رايحة تحكمهم " ، غير أن ذلك اليوم الذي لا تنساه طفولة ياسمين ، كان آخر يوم تري فيها إخوتها الذين أصبحوا فيما بعد "يهود"، بعدما جردوا من لغتهم وهويتهم و أسمائهم العربية أيضا. لتترك فراغا كبير و سؤالا يدور في ذهن الصغيرة : " مش كانت تحبنا و تحب بابا .. طب ليش تركتنا لحالنا ؟ " لكن مأساة ياسمين الحقيقية كانت أثناء الحرب، عندما استشهد والدها رامي القدرة .. أمام باب منزله ، لتفقد الصغيرة أمان الأب، و حنان الأم، وهموم كثيرة تكبرها، خاصة و أن أختها الصغري دالية، تعاني من إعاقة خلقية . لتتصدر القضية وسائل الإعلام من جديد . تكتب الصغيرة ياسمين _ وهي محور الفيلم _ ، رسالة لأخيها اليهودي مائور ، _ محمود سابقا _ واصفة له مقتل أبيها بصاروخ طائرة استطلاع ، رائحة الدم و الأنقاض و صراخ الأطفال الذي يخبو بين الحجارة ، تستجديه بلغتها الصغيرة ...أن يعود . غير أن الفيلم يحاول البحث عن الأماكن الأكثر إبهاما في تلك القصة ، ليكتشف المشاهد المؤامرة التي وقعت فيها أسرة القدرة ، وخاصة الشهيد رامي . بعدما أكد ذووه بأنه تعرض لمحاولات كثيرة لجعله يهوديا من قبل عائلة زوجته " جيليت " ، من خلال استجوابات و إغراءات كثيرة ، لم تجدي نفعا ، الأمر الذي عرض الشهيد القدرة للتعذيب علي يد المخابرات الإسرائيلية . ورغم ذلك تتضح الجوانب الإنسانية في داخل الأسرة خلال الثماني سنوات التي قضتها جيليت في غزة مع أسرتها الفلسطينية ، وهو ما تؤكده الأسرة . لغز جيليت " لماذا ارتدت عن إسلامها ؟ .. أي نوع من الأمهات هي التي تركت طفلة معاقة ؟ وهل كان حبها مجرد مغامرة كاذبة ؟ " أسئلة كثيرة قفزت علي تراتيبية الفيلم ، بعدما انطلق طاقم العمل بمساعدة مخرجة منفذة ...... للتصوير في الناصرة ، بناءا علي موافقة جيليت علي المقابلة ، لكن مع اقتراب وصول الطاقم ، تفاجأ المخرج برفضها المقابلة. مما اضطر النبيه إلي تغيير مسار السيناريو بشكل ملائم، وإصراره علي البحث عنها، بأي ثمن . هذا الإصرار الذي ساعد الطاقم علي التقاط ردات الفعل لجيليت و أسرتها، خاصة عندما اقفل باب المنزل في وجه الكاميرا . يتابع المخرج النبيه قائلا : " حاولنا الضغط بشكل أكثر إلحاحا علي جيليت ، حيث تقرر انتظار طاقم التصوير تحت البناية التي تقطن فيها جيليت إلي حين خروجها " ، وبالفعل نجحت الخطة، وقد بدي التوتر و الارتباك واضحا في تصرفات جيليت حين تفاجأت بالكاميرا من جديد، تترصدها هي وأخيها وهم خارجين من المنزل .
الحقيقة خلف الكواليس " أنا قلت لا أريد تصوير "... هذا ما قالته جيليت بتوجس و قلق ملحوظ ، مضيفة : " لا استطيع الحديث .. هذا صعب علي كأم طفلتي حائرة و أنا لا اعرف كيف أساعدها " ، وعند سؤالها عن الحل أجابت جيليت .. " معجزة .. فقط معجزة " . دون أن يكتفي المخرج النبيه باستفزاز المشاهد ، حيث تفتح الكاميرا عينيها حتي نهاية المشهد ، لتضم جدران و مباني و شوارع مدينة الناصرة ، بأحرف عبرية دخيلة . يشير المخرج النبيه إلي حرصه في رؤيته الحيادية في القصة ، بحيث أنه كان يضع أصابع الاتهام إلي مجهول يخطط و ينفذ بأيد خفية ولدواع يراها المخرج " أمنية إسرائيلية " أكثر منها دينية ، بحيث توحي للمشاهد بان ما يحدث وراء الكواليس ، أخطر بكثير . خاصة و أن القصة باتساعها تتحسس الصراعات الاجتماعية بين الأديان، وبخصوصيتها تنتصر للانتماء الفلسطيني العربي دون تعصب، بما يوازي الرسالة الإنسانية الموثقة. قائلا: " حاولت جاهدا إلا تخرج الحقيقة بعين واحدة، دون تبرير موقف أي طرف، فالقضية في مكنونها هي مأساة إنسانية، تتكرر بأشكال متعددة، وفقا لسياقات الزمن المتواطئ بذلك التشابه "، معربا عن أمله في خوض هذه التجربة التوثيقية في نفض الغبار عن الحقيقة المختبئة خلف كواليس . فحتي خوف الصغيرة ياسمين لا يلبث أن تحول إلي صمت حزين مكتوم ، و اعتذارات إنسانية كثيرة لطفولتها البائسة ، " فربما تكون ياسمين خبرا .. في صحيفة عابرة " . غزة _ أسماء شاكر