شاهدت قبل يومين فيلما يتحدث عن مهووس الكترونيات يزرع مئات الكاميرات في شقق برج سكني ضخم (يمتلكه !) ، ويربطها بغرفة تحكم مركزي ، حيث يستطيع عن طريق شاشات التلفزة الموصولة بالكاميرات معرفة كل أسرار وخفايا السكان وكذلك فضائحهم ، بل أنه قادر تقنيا حتى على حفظ نسخ من الأصوات الحقيقية الصادرة عن هذه الشقق وعلى مدار الساعة ...ولكنه يفاجىء بفتاة ذكية تفضح فعلته وتقول : انت تحاول أن تلعب دور الاله وانا اريد أن اعيش حياتي بطريقة عادية ! هكذا يصنع المجتمع الرأسمالي المتطور مبررات انهياره بقدرته الهائلة على كشف الأسرار ونشر الفضائح والتشهير ، بينما يحافظ الاسلام على الفضيلة بواسطة تعميق الاحساس الداخلي بها ، وعدم نشر الفضائح والموبقات بحجة الشفافية واللعب على حب الطبيعة البشرية للفضول ومعرفة خفايا حياة الاخرين ، كما أنه يدعو للستر في حالة البلية ، ويعزز قوة الضمير الأخلاقي الداخلي كرادع أول واخير ، فالله يطلع على النوايا والدخائل ! ولكنهم يفعلون كل شيء باسم الحرية الشخصية ،ويخلطون احيانا بينها وبين الابداع الذي نقمعه بضراوة أحيانا اذا كان سيؤثر على حياتنا الراكدة ونمط انجازاتنا المتواضعة ، بالمقابل فهم يشجعون الابداع لأقصى الحدود ، ويملكون حسا راقيا بالنقد الذاتي البناء الجريء نفتقده نحن تماما ، بل ونحاربه بلا هوادة : فشريط "باسم الأب " ( الحاصل على سبعة اوسكارات ) ، يتحدث عن بريء ايرلندي يسجن ظلما في السجون البريطانية بسبب تهمة تفجير لم يقم بها ! أثارني موضوع هذا الفيلم الطليعي فدفعني لقراءة تجربة عباس بيضون " أسابيع في سجن اسرائيلي " ، حيث يتحدث المقال بصراحة عن بؤس الحياة في السجون الاسرائيلية ، وبالرغم من الاضرابات المكررة الشاملة في الضفة والقطاع التي حدثت تضامنا مع المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الاسرائيلي الغاشم ، الا اني ما زلت اشعر بمرارة لأنه لم يكن بوسع العرب تقديم فيلم سينمائي واحد جريء يتحدث عن المعاناة الحقيقية للمعتقلين والمساجين العرب في المعتقلات الاسرائيلية " سيئة الذكر " ! فهل ينتظر السينمائيون العرب (والفلسطينيون واللبنانيون ) بشكل خاص دعما "فرنسيا-اوروبيا " مسموما (وبشروط متحيزة لاسرائيل) لكي ينجزوا فيلما حول هذا الموضوع الفائق الأهمية ، الذي قد يفضح ممارسات الاحتلال الصهيوني ويكشف عوراته للعالم ويدعم قضية فلسطين ( التي ما زالوا يدعون انها قضية العرب الاولى !) ، و التي كادت ان تصبح منسية في غمرة التركيز على تداعيات ما يسمى " الربيع العربي " ، وفي خضم الأكاذيب الاعلامية المضللة وحالات الاصطفاف المخزية ! عندما أعلم عن بعض المشاركات العربية بمهرجانات السينما العالمية أشعر بالاحباط لهبوط المستوى الفني ولافتقادها لتناول مواضيع حقيقية تهم الانسان العربي المسحوق ، فمواضيع معظم المشاركات ما زالت تدور في حقول الاقتباس و التفاهة والسطحية والمبالغات وقصص المراة والجنس ، وكأنهم يستدرون عطف لجان التحكيم لكي ينالوا جائزة هنا وهناك في ظل غياب شبه تام للنقد السينمائي الجاد ، وقد اصبحت بعض هذه المهرجانات وسيلة للسفر والتكسب والظهور والادعاء لا غير ! وما حفزني للكتابة عن هذا الموضوع الابداعات اللافتة والحضور القوي لكل من السينما الايرانية والسينما التركية في المهرجانات العالمية أولا ، ومن ثم الحلقة الأخيرة من برنامج "كلمة حرة" بتلفزيون "الميادين" حيث تطرق لموضوع "المعتقلين العرب في سجون الاحتلال الاسرائيلي " بطريقة غير مسبوقة ! مهند النابلسي