تعتبر الحكاية جزءا لا يتجزأ من التراث الشعبي المغربي، كما تحتل مكانة مهمة في الذاكرة الشعبية، إذ رافقتنا منذ أيام الصبا ولعبت دورا لا يستهان به في تشكيل وعينا ولاوعينا على حد سواء. ووسعت آفاق تفكيرنا وذلك عبر الحيل التي تعرضها والدروس والعبر التي نستخلصها منها عامة وتلك المتعلقة بالخير والشر خاصة. وتتميز الحكاية بالبقاء، حسب يسري شاكر، إذ إنها "باقية وتعيش بين أحضان الجماهير العريضة ويتداولونها منذ ألوف السنين على مر أجيال وأجيال“ (1). والحكاية الشعبية هي "تلك الحكاية التي تناقلها الناس عن طريق الرواية الشفوية منذ القدم، ويلعب الخيال الشعبي دورا كبيرا في صياغتها، وفي تأطير بعض الأحداث التاريخية والشخصيات، بالمبالغة والغرائيبية...“. (2) ويسجل انفتاح محتشم للسينما المغربية على مكون الحكاية، حيث ظلت مهمشة من قبل أغلب المخرجين المغاربة. وتعتبر الحكاية مكونا محترما قادرا على الدفع بعجلة السينما المغربية إلى الأمام، سواء تمت الاستعانة به سيناريوها أو قصة أو موضوعا.... نحن لا ندعو إلى الاشتغال على الحكاية من باب التوجه الفولكلوري الذي يعمل على 'فلكلرة' الثقافة المغربية وحصرها في كل ما هو فولكلوري وماضوي، ولكن ندعو إلى اشتغال واع بمتطلبات الوقت الراهن، بتأسيس تصور معين يهدف إلى إعادة الاعتبار للتراث الشعبي المغربي وذلك بالاشتغال عليه لا كمكون فولكلوري ولكن كمكون يصوغ الهوية الثقافية للفرد وينهل من الذاكرة الشعبية ويخدم الشأن الثقافي. ويأتي فيلم «كيد النساء»، من إخراج فريدة بنليزيد سنة 1999، في فترة حاسمة في مسار السينما المغربية والتي باتت تعرف بأفلام 'موجة المرأة'، حيث تعددت الاتجاهات السينمائية التي اشتغلت على قضية المرأة، وتنوعت واختلفت، وفق سيناريوهات تنهل من الواقع والخيال معا. وهكذا جاء فيلم «كيد النساء»، الذي اعتمد على متخيل حكائي في معالجة قضية المرأة، بمثابة 'ثورة' هادئة على المتخيل السائد ضمن أفلام هذه الموجة، حيث حاول المزج والتوفيق بين ما هو أسطوري حكائي وبين زمن لم تعد الحكاية تحظى فيه بالاهتمام الكافي؛ وباختصار فلقد حاولت بنليزيد التوفيق بين ما هو أصيل وما هو عصري. ويموقع حميد اتباتو «كيد النساء» ضمن التوجه التبسيطي الذي عالج قضية المرأة من زاوية نظر تبسيطية، حيث اعتمد الفيلم، حسب اتباتو، على الجاهز في الموروث من أجل معالجة قضية المرأة (3). هنا، أريد أن أشير إلى أن فيلم «كيد النساء» لا يعد ذا توجه تبسيطي بمجرد اشتغاله على الموروث الحكائي 'الجاهز' وطرحه لقضية المرأة من خلال هذا المنظور، بل يعد ذا توجه 'ثوري' هادئ، حيث اعتمد على طرح ذكي يجعل الحكاية مرجعا أساسيا له، وذلك بخلاف مختلف التصورات الأخرى التي اعتمدت المتخيل الواقعي والخيالي كمادة رئيسية لطرح قضية المرأة، كما أشرنا سابقا. وهكذا حاولت بنليزيد أن تموقع خطاب الحكاية في الوقت الراهن بما هو مكون تراثي شعبي يمكن الاستفادة من دروسه وعبره في الحاضر. ويبدو هذا جليا في بداية الفيلم الذي يبدأ بصراع بين أخ وأخته حول استعمال الحاسوب يلجأ فيه العنصر الذكوري إلى استعمال العنف، وينتهي هذا الصراع بتدخل من الأم التي ستنبه العنصر الأنثوي إلى اللجوء إلى الذكاء ونبذ العنف في حالة مواجهة الذكر: "عمرك ما تردي على العنف بالعنف... نتي أبنيتي، صحتك ماشي صحتو، واش غا تقدي عليه؟ وزيدون، بالعنف غاتجيبيها غي فراسك". وبينما نصحت ابنتها باستعمال الذكاء، تلقي الأم باللوم على الابن الذي لجأ إلى العنف: "إوا أسيدي منين كتحس براسك قوي وراجل، ماتعداش على اللي ضعف منك“. ويحضر الحاسوب في بداية الفيلم على مستويين اثنين: المستوى الواقعي والمستوى الرمزي. وهكذا يعتبر الحاسوب على المستوى الواقعي مؤشرا واضحا على الزمن المعاصر، حيث بحضوره لا يمكن الحديث عن زمن الحكايات أو زمن الأسطورة، بل الحديث عن الوقت الراهن الذي أنتج فيه الفيلم؛ دون إغفال حقيقة أن الحاسوب يسجل ضمن آخر الاختراعات التكنولوجية مما يموقع الزمن الفيلمي في الزمن الحديث. أما على المستوى الرمزي، فيرمز هنا الحاسوب إلى الحياة والوجود وذلك بناء على كونه الشيء المتصارع عليه من طرف الذكر والأنثى، وهكذا يمكن تشبيه هذا الصراع بالصراع الأزلي بين الرجل والمرأة من أجل إتباث وجود كل منهما. بالإضافة إلى كل هذا، يشير الفيلم بطريقة ضمنية ورمزية إلى أن حق الوجود والحياة هو حق كل من الرجل والمرأة وما عليهما إلا اقتسام هذا الحق وفق التوافق والتفاهم وذلك عبر العبارة التالية، والتي جاءت على لسان البنت: "بابا قالك الكومبيوتر ديالنا بجوج“. وتحضر الحكاية بوصفها متخيلا سينمائيا بديلا ينتصر ضمنيا للمرأة على مستوى الذكاء ويقر بالقوة البدنية للرجل، وذلك بالعودة إلى حكاية «ابنة التاجر وابن السلطان» التي تدور حول الصراع بينهما من أجل الانتصار لكيد الرجال أو النساء؛ وينبني هذا الصراع على الانتقام والانتقاص من قيمة الآخر والضحك عليه. ويتردد باستمرار على لسان ابن الأمير سؤال: "...شكون اللي غالب، كيد النساء ولا كيد الرجال؟“، والذي يتم الإجابة عليه من طرف ابنة السلطان بتعنت على النحو التالي: "كيد النساء أمولاي!“. وهكذا ينطلق الأمير للبحث على جواب لسؤاله، الذي يبدو سؤالا بلاغيا، يشفي غليله؛ ويتوجه بالسؤال أولا إلى أحد خدمه، إسماعيل، ثم ثانيا إلى الحاج الطاهر، فقيه عالم: ابن السلطان: ... العيالات عندهوم شي ذكاء؟ إسماعيل: ... كنظن بأنهم مطيورات وفيهم تحرايميات، ولكن ماشي ذكيات. ابن السلطان: زعما شنو! إسماعيل: يعني الواحد خصو إرد البال منهم، راهوم إدوروا الواحد على صبيع بلا ما يفطن. ابن السلطان: ... اللي بغيت نعرف هو واش كيفكرو بحال الرجال؟ ************************** ابن السلطان: كول لي، النساء عندهوم شي ذكاء؟ الحاج الطاهر: ... معلوم عندهوم الذكاء ومانساوشي بأنه دازو نساء فقيهات وعالمات وحتى صوفيات. ابن السلطان: أيه هاذشي معروف، ولكن الذكاء ديالهم مكايوصلش للذكاء د الرجال؟ الحاج الطاهر: وعلاش! كاين في بعض الحين الذكاء ديالهم كيفوق الذكاء ديال الرجال، والتاريخ كيشهد بنساء دركو السلطة والجاه وقادو جيوش وخاضو معارك طاحنة ابن السلطان: وعلاش راسهم قاسح علاش! الحاج الطاهر: ما قاسح شاي أمولاي، غي خصك تكون شويا معاهم سموح. وباء ابن السلطان بالفشل في بحثه عن جواب ينتصر لذكاء الرجال على حساب ذكاء النساء، غير أنه لن يرضخ للأمر الواقع إلا بعد معاينته لانتصار المرأة على مستوى الذكاء بعد أن أوقعت به ابنة التاجر في ثلاث نزهات قام بها إلى صور ودور وحمامت القصور، وهكذا حملت منه طفلين وطفلة دون علمه، ويحملون أسماء أماكن النزهات: صور، دور، حمامت القصور. ويقود انتصار ابنة التاجر على مستوى الذكاء ابن السلطان، الذي أصبح سلطانا بعد وفاة والده، في أخر الفيلم إلى الإقرار والاعتراف بانتصار كيد النساء على حساب كيد الرجال ولكن على نمط مختلف عن نمط الحكاية التي تنتهي ببساطة على الشكل التالي: "وهكذا أدرك السلطان أن هؤلاء هم أبناؤه، وبدت الحكاية كلها واضحة له واضطر أن يعترف بأن المرأة هي أكثر مكرا من الرجل. وقام بإبعاد الفتاة التي كان على وشك الزواج بها، وكان تكريما للالا عيشة بنت السلطان أن إعداد الحفل استأنف من أجلها“. (4) (ترجمة شخصية) وينهي «كيد النساء»، الذي يعترف ضمنيا بانتصار كيد النساء انطلاقا من العنوان نفسه، قصته بشكل مغاير تماما لنهاية الحكاية، إذ يتم الإقرار بقوة الرجال وكيد النساء ولكنه يدعو، في ظل هذه المعطيات، إلى التفاهم والتوافق وعدم اللجوء إلى استعمال كل من القوة والكيد: السلطان: لالا عيشة، راحنا بين يديك، إوا حاولي علينا. أو دابا شكون الغالب، كيد الرجال ولا كيد النساء؟ لالا عيشة: حنا تحت أمر الله يا مولاي، هو اللي اعطى القوة للرجال والكيد للنساء، ما علينا إلا نستعملوهم في طريق الخير والتفاهم والإحسان والتودد؛ الله يهدينا! وهكذا عبرت حكاية «ابنة التاجر وابن السلطان»، عبر متخيل الفيلم، حسب نورالدين محقق، "عن الصراع الأزلي بين الرجل والمرأة والذي انتهى فيها بالتصالح بين الجنسين، وهي إشارة ذكية إلى تبني هذه الخاتمة وتطبيقها على الوضع الذي يعيشه كل من الرجل والمرأة في المجتمع العربي الحالي وضمنه طبعا المجتمع المغربي. هكذا وظفت السينما المغربية الأسطورة باعتبارها تشكل متخيلا شعبيا بامتياز وجعلت منه وسيلة للتعبير عن قضايا العصر إذ إن الأسطورة تظل، كما يقول رولان بارت، معبرة عن اللانهائي: الماضي والحاضر والمستقبل“. (5) وعلى هذا الأساس، يدعو «كيد النساء» إلى العودة إلى الموروث الحكائي الشعبي واستخلاص العبر منه والعمل على تكييف هذا الموروث مع احتياجات الوقت الراهن، حيث يجب الانطلاق من منطلقات التفاهم والتوافق حين يتعلق الأمر بمعالجة الصراع بين الرجل والمرأة. وفي الأخير، نخلص إلى أن «كيد النساء» قام، على نحو فيلم «قنديشة» لجيروم كوهن اوليفار، ب"إعادة إنتاج القصة القديمة وزرعها في الحاضر وإحياء جذور حكايتها في واقع اليوم، كرمز من رموز تجاوز القهر وتحدي سلطة الرجل“. (6) * لقد تم نشر هذه الورقة في كل من مجلة الحياة الفنية، عدد 09، يناير 2010، وكتاب التجربة السينمائية للمخرجة فريدة بنليزيد، من منشورات جمعية نقاد السينما بالمغرب، 2010. سعيد شملال الهوامش: 1_ يسري شاكر، حكايات الفولكلور المغربي، الجزء 3، نشر سوماكرام، الدارالبيضاء، 1994، ص: 04. 2_ عبد الرحمن عبد الخالق، "الحكاية الشعبية في اليمن بين التوثيق والدراسة" مأخوذ من الموقع التالي: http://www.yemenitta.com/conte.htm 3_ حميد اتباتو، السينما الوطنية بالمغرب: أسئلة التأسيس والوعي الفني، مطبعة: Publisud Ouarzazate، ورزازات، 2002، ص: 78-79. 4_ Tales of Fez, trns: E. Powys Mathers, 2007. Fez: Moroccan Cultural Studies Centre Publications. Eds: Khalid Bekkaoui, Jilali El Koudia and Abdellatif Khayati. P: 20-21. 5_ نورالدين محقق، "المتخيل في السينما المغربية"، مجلة سينما، عدد: 08، ربيع 2006، ص: 15. 6_ حميد عنكر، "الفيلم المغربي «قنديشة».. نظرة فولكلورية إلى مغرب اليوم"، جريدة المساء، عدد: 675، 20\11\2008، ص: 08.