حينما تتداخل العوالم الفنية مجتمعة في ممكن الصورة، وحينما تحتمل اللقطة السينمائية أكثر من بعد وتنفتح على الشعر والموسيقى والتمثيل بشكل لا يمكن معه التفريط في أحد هذه العناصر أو حتى تفكيك الصورة داخل هذه اللقطة دون الربط مجازا ومعنى بين مكوناتها الفنية والسينماتوغرافية المختلفة، فحينها، وحينها فقط، يمكننا الحديث عن سينما Emir Kusturica العجيبة والمذهلة، وذلك دون القفز على منطق التقييم الموضوعي لمجمل آثاره السينماتوغرافية، حتى وإن كان منطق التقييم للأثر الفني عديم الجدوى في بعض الأحيان، لتواصله مع مبحث "زئبقي" التحديد والمقاربة، مفتوح على كل الممكن واللاممكن. وعند الحديث عن سينما Emir Kusturica، السينمائي البلقاني، المبدع عبر تناقضاته اللاممكنة، وعبر افلامه التي يشكل كل واحد منها صدمة بصرية، وفضاءا مبتكرا كذلك الذي توصل إلى صناعته رائد السينما الإطالية فليني 1 ، فإننا لا يمكننا بأي حال من الأحوال تجاهل "أيقونته" السينمائية "قط أسود ، قط أبيض "، الذي جسد، حسب العديد من النقاد، ذروته السينماتوغرافية، بعد أن كان قد استقال عن هذا الحقل وتفرغ للعطاء في الحقل الأكاديمي. وكان فلم kusturica "قط أبيض قط أسود" قد أتى في مرحلة من تاريخية فلمغرافية كان قد قطع فيها مع الصناعة السينمائية، ليتقاعد من هذا الحقل بشكل مبكر، ويتفرغ للإشتغال على المباحث الأكاديمية والتدريس، غير أن الهاجس الفني المتنامي في داخله عاد وأخذ مكان الهاجس الأكاديمي ليعود لنا بهذا الفلم الذي أخرجه في أواخر تسعينات القرن الماضي، والذي توج بجائزة "الأسد الفضي" في مهرجان Veniseالسينماتوغرافي سنة 1998. يتحدث هذا الفلم عن أحد الغجر يدعى Matko الذي يعيش برفقة إبنه Zare على ضفاف نهر الدانيب. ومن أجل تنفيذ صفقة شراء لقطار من البترول المهرب، كان ضروريا عليه ان يطلب مساعدة عراب المجتمع الغجري وصديق والده Grga Pitic ، الذي لم يتوانى عن مساعدته، غير انه فشل في تنفيذ عمليته، واحتيل عليه من قبل متحيل خبير يدعى Dadane الذي طلب منه ان يجوز أخته الصغيرة لإبنه اليافع من أجل تسديد ديونه، وبما أن الفتى يريد الزواج بفتاة أخرى، فإن الأحداث تأخذ منحى آخر. ما من شك في أن حياة الغجر التي تطرق لها الفلم تختلف أيما اختلاف عن حياة المجتمعات المتمدنة، فهم قوم رحل لا يعرفون الاستقرار في مكان، يعيشون تقاليد مجتمعية غريبة (إذا تابعناها بقراءة من خارج النص). كما أن الفاقة والحرمان تدفعان هؤلاء الأقوام لاتباع أرخص الأساليب للعيش، كبيع الأطفال والدعارة وما لفل لفهما، ولكن أليس هذا تماما ما يروجه الإعلام العام عنهم!؟ هل كان الأمر يستحق العناء فعلا حتى يأتي شاعر آخر، بعد غرسيا لوركا Federico Garcia Lurca(الذي عكست قصائده آلام الغجر الذي عاش ويعيش على هامش المجتمعات، وتعرض ويتعرض لاضطهاد حكامها2)، لينبش الغبار المتاركم على روح هذه المجموعات، ويؤلف قصائده الخاصة به عنهم، ولكن بآلة تصويره هذه المرة، وليسجل معيشهم اليومي، وموسيقاهم، وعالمهم السحري المليء بالفنطازيا والخيال، والمتجذر عميقا في تربة البلقان، وعلى ضفاف نهر الدانيب. لقد استجلى kusturica، من خلال فلمه "قط أبيض قط أسود"، والذي أوحى بالبعض من افكاره لكاتب السيناريو Gordan Mihic، نهارات وليالي غجر البلقان، بكوميديا ساحرة، وسريالية مبتكرة3، تجعلان المشاهد يعيش إطارا سينماتغرافيا، يكون بمثابة البوابات، واحدة تاخذه لماضي دفين، يعتقد أنه نسيا منسيا، وأخرى تمتد به على الصراط، نحو "فردوسه المفقود"، لتعالج (البوابتان) شيئا من قلقه المتنامي عن مصيره المسكون بسؤال الهوية، و – وليسمح لي سارتر باستعارة كلماته – عن ماهية "الوجود والعدم". وحينما نتحدث عن البصمة السريالية التي تطبع هذا الاثرالفني، فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن الفعل الدرامي والشخصيات والأمكنة وما إلى ذلك مكونات غريبة عن الواقع المعاش أو كائنات أسطورية لا يمكن تحديدها، بل على العكس تماما، فالمفارقة العجيبة التي تفاجئنا كل ما شاهدنا الفلم، وتدعونا لنعيد البصر إليه ثانية وثالثة ورابعة...،هي انه وبالرغم من التناقضات الشديدة التي تسم شخصيات الشريط، و إقدامها على القيام بأفعال لا يمكن توقعها أو انتظارها، غير انها تعد شخصيات واقعية حد النخاع. وبالرغم مما توحيه لقطات الفلم من لوحات فنية لمجتمع غجر البلقان، في تنقله اليومي وعيشه الفريد من نوعه، إلا أنها كذلك لا تمت للانبتات عن الواقع بصلة، بل هي واقعية أكثر من الواقع! غير انها واقعية جميلة بالرغم مما ارتسم بين طياتها من حزن ومعاناة ويقول مخرج الفلم في هذا السياق "إن مجتمع الغجر وانسانيتهم يقدمان ما أنتظره من السينما، شيئا أكبر من الحياة ("larger than life") كذلك الذي نشاهده في الأفلام الهليودية القديمة، غير أن الاختلاف بينهما يكمن في أن ما أصوره هو الواقع في حد ذاته". وبالعودة للحديث عن شخصيات الفلم، فإن ما سيذهلنا حقيقة على هذا المستوى، هو أن الممثلين الثانويين في هذا الشريط لا يقلون مهارة عن الأبطال، الذين من المفترض أن يكونوا شخصيات رئيسية في فلم " قط ، قط أسود، أبيض "، بل إن الفارق الوحيد الذي ربما يميزهم عن بعضهم البعض هو المساحة الدرامية التي يشغلها كل واحد فيهم والتي تزيد وتنقص من ممثل لآخر. فكل واحد من هؤلاء الممثلين، سواء أكان يلعب دورا رئيسيا أو ثانويا، فإنه يتقمص الشخصية التي حضي بها بعنفوان لا يمكن أن يصدر إلا عن شخص ملهم وذو شخصية غير عادية، بحيث ينفخ في الدور الذي يجسده من روحه حتى يدفعنا للضحك دون أن نعرف لماذا نضحك، هل على الطريقة التي يؤدون بها أدوارهم أم على حواراتهم أو ببساطة على طريقة جسدهم في التعبير عما تعجز الكلمات عن إيصاله، والتي لا يمكننا فصلها عن تعبيرات الكولغرافيا calligraphie المتواترة في بعض اللقطات من الفلم وبشكل اعتباطي ومختلف لا ينضبط للأساسيات ، أوعن الموسيقى الغجرية التي لا تعلم متى ستنتهين بل ولا يمكننا تخيل الشريط السينمائي "قط أسود قط أبيض " دون تواتر هذه الموسيقى المصاحبة للصورة السينماتوغرافية داخل الفلم. إن أداء الشخصيات لأدوارها بهذا الشكل غير العادي والحدي والمبالغ فيه، لا يمكن، بأية حال من الأحوال، أن ينفي عنها واقعيتها المتجذرة، ومألوفيتها لدينا وشبهها بكل واحد فينا4، وبكل كائن بشري بشكل عام. كل ذلك يدفعنا للإقرار بانجذاب كوستريكا الدائم إلى الإنسان أو إلى أعجوبة الحياة، الحياة الممكنة في كنف تظافر الظروف غير المؤاتية". تلك الظروف التي تتسم بالبؤس وعدم الاستقرار وحالكية المعيش اليومي المخترق بموسيقى مفعمة بالخيال والسحر يجعل الأحداث والمشكلات تتساوي في ناظري شخصيات الفلم، بالرغم من احتوائها على تناقضات عميقة في احيان كثيرة، ربما كان ذلك، وبكل بساطة، ضربا من العبثية اللاواعية، الموظفة بعفوية مطلقة، وبلا إرادة مسبقة، من أجل التمكن من تبصر درب الممكنات الاجتماعية المتاحة لهم، وملامسة شيء من "السعادة" المفقودة التي، وإن لم يسمح لهم بتحديدها عن طريق "المال" فقد تسنى لهم إهداؤها للملايين الذي تابعوا هذا الفيلم، بلغة فلمغرافية جميلة قدر من خلالها المخرج اليوغسلافي كوستريكا أن يأسر الملايين من ممن تابعو هذا الشريط، بل وحسب الكثيرين أن يكسب تعاطفهم مع قضية الغجر السلاف في منطقة البلقان ومختلف أنحاء أوروبا التي يوجدون فيها. ما سبق ذكره يجعل من " القط الأسود، القط الأبيض" تحفة فنية بحق، نادرة في وجودها سواء من ناحية الإخراج أو أداء الممثلين، أو حتى الكوميديا التي تسم هذا العمل الفني، والتي تميزت باستثمار موفق للطريقة المسرحية في أداء بعض اللقطات والمشاهد من الفلم،في تجانس تام مع عناصر الإرث الفلكلوري الغجري5 دون أن يمس ذلك بالخاصيات السينماتغرافية لهذا الفلم. خلاصة القول لقد اختلف فلم "قط أبيض قط أسود"، كما دلل على ذلك النقاد، عن السينما السربية، لاحتوائه، كما سلف وأبرزنا، على كوميديا سريالية، غريبة، وانماط من الشخصيات التي تقدم اكثر مما لديها، وتقنعك بأنه مهما وصلت درجة عبثية الواقع، فإن طهرانيتها تجعله بهيجا وممكنا. ومن ثمة فإن هذا الشريط يعد علامة فارقة في سينما البلقان. ثم إن النجاح منقطع النظير الذي حصده فلم "Kusturica "، والذي تجاوز البعد المحلي الصرف لينفتح على كل ماهو انساني، لم ياتي من عدم، أو بمحض صدفة عابرة، وإنما جاء لتمثل دقيق من المخرج لعمله، وعدم اقتصاره على معالجة أحداث الفلم من زاوية تقليدية ضيقة، بل إنه قارب مواضيع الشريط قيد التحليل بانفتاح كامل على الأبعاد الانسانية التي يمكن ان تكون أحداث الشريط منطلقا لها، بعيدا عن المجادلات المحلية العقيمة عديمة الجدوى والتأثير. بدر السلام الطرابلسي *صحافي تونسي مقيم في الدوحة. [1]د المراجع - باللغة العربية: 3 – موقع الحوار المتمدن، العدد: 1676، التاريخ: 2006 / 9 / 17، محور أدب وفن، مقال بعنوان " المخرج البوسني امير كوستوريكا عالم سينمائي، يتجاور فيه الواقع والخيال"، محمد عبيدو. - باللغة الفرنسية: 1 - www.allocine.fr, fiche technique, Critique du film: "CHAT NOIR, CHAT BLANC". 2 - Wiképidia (l'encyclopédie libre), Federico Garcia Lurca, "Romancero Gitano. http://fr.wikipedia.org/wiki/Romancero_gitano 4 –a- revue: Lycéens au cinéma (Avec le soutien du ministère de la Culture et de la Communication (Centre national de la cinématographie, Direction régionale des affaires culturelles) et des Régions participantes.), PERSONNAGES ET ACTEURS PRINCIPAUX, Portraits d'après nature, le physique de l'emploi, Paris, 10 p. -b- http://www.komuna.com/ 5–Revue: Positif n°452 - Octobre 1998, Paris; p2. Propos recueillis par Michel Ciment.