يعالج شريط "سفرة يا محلاها" للمخرج التونسي خالد غربال، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان السينما الإفريقية بخريبكة في دورته الثانية عشرة، مسألة الغربة والاغتراب من زاوية زمنية . حيث يحظر الزمان بكل ثقله و كلكله وكأن لسان حاله يردد مع الشاعر القديم كِلِيني لِهَمٍّ يا أُمَيمَةَ ناصبِ وليلٍ أقاسية بطيء الكواكبِ وإذا كان ليل الشاعر هو البطيء في هذا البيت فإن البطيء في شريط "سفرة يا محلاها" هو النهار ذاته، حيث الرتابة جاثمة على صدر الشريط والبطء يشل حركته ... يحكي الشريط قصة جيل بأكمله (ممثلا له بشخصية "محمد " بكل ما يحمله هذا الاسم من أبعاد دلالية و تاريخية ورمزية في ثقافتنا العربية الإسلامية... ) جيلٍ آثر الابتعاد عن وطنه الأم بحثا عن هوية ضائعة وعن بديل لحضن الأم، ليكتشف في نهاية المطاف أن لا مناص من العودة و الارتماء في حضن الأم الأصلية؛ على أنها ليست أمّا من لحم ودم، بقدر ما هي أمّ رمزية ،في الشريط، وهي ليست شيئا آخر غير" الصحراء" ؛ صحراء تشبه إلى حد بعيد صحراء الراحل غسان كنفاني في رائعته " ما تبقى لكم "،صحراء تنتصب بوصفها شخصية قائمة الذات تنبض بالإحساس وتصغي لمعاناة البطل وتحتضنه داخل رحمها فيما يشبه عودة أبدية إلى رحم الأم ( تكرار مشهد البطل في الشريط وهو يتألم متخذا وضع الجنين في بطن أمه) ونشدانا لهوية أصيلة بدّدتها سنوات الرحيل والاغتراب بين أحضان أمّ مزيفة ( فرنسا ) تلفظ "أبناءها" بمجرد أن تستنزف عطاء اتهم، هكذا يمتد جسد الصحراء بتضاريسه الأنثوية ليتحول من فضاء للوحشة والقفر والمَحْل ،كما يتصورها المخيال الغربي على الأقل، إلى فضاء للألفة والخصب و استنبات الجذور... ، كما يصوره الشريط. تبدو شخصية "محمد" في الشريط منذ الوهلة الأولى شخصية هشة، خائرة ،آيلة للسقوط؛ شخصية ما تفتأ تتجرد وتتحلل من كل ما يربطها بالحياة من مقومات : البيت،الأثاث ، اللباس، النقود،الأصدقاء، بل حتى من الذكريات الجميلة...،لتتهيأ لرحلة معاكسة، تختارها هي، طواعية، صوب أغوار نفسها/نفسنا العميقة، رحلةٍ يتخذ فيها الزمان وجهة معاكسة ... يتعلق الأمر بزمن ارتدادي نكوصي يعود القهقرى لتستكشف الشخصية ،من خلال السفر فيه، أسرارَ الذات الوجودية في جذورها الأولى؛ هذه الجذور التي وإن جفّت عروقها ونضبت فإنها لا تزال صالحة للتدفئة ولاحتساء كوب شاي .. ومن ثمة الرؤية التفاؤلية التي حاول الشريط أن يبثها في خطابه ، رغم كل مظاهر القتامة والبؤس الوجودي التي تطبع أغلب مفاصل الشريط ، والملوَّح بها منذ أول عتبة من عتبات الشريط ألا وهي عتبة العنوان؛ إذ تحيل كلمة "سفرة "على الإرادة والاختيار ،وتحيل كلمة "محلاها" على الرضا والاستمتاع... يلعب الزمان دورا مفصليا في الشريط حيث يُلحِم كل أجزائه إذ ينصهر فيه كل من المكان والإنسان ليشكلا وحدة وجودية ينبثق منها الزمان في تجليات عدة... هكذا ينبني الزمان في الشريط من خلال المؤشرات التالية : * المؤشر الأول هو فضاء المهجر حيث زمن الغربة: وهو زمن للرتابة والقتامة والعجز عن أي فعل إيجابي، إنه أيضا زمن للذكرى والتحسر على حياة ماضية هي أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة والواقع... إنها ذكرى لم تعد تستحق سوى الحسرة والدموع... * المؤشر الثاني عن الزمان هو فضاء الوطن حيث يمكن التمييز داخله بين زمنين اثنين: - زمن التنكر والجحود والضياع (لقاء الأهل ) - وزمن الاحتضان والعودة إلى الرحم (لقاء الصحراء) وهو زمن يجسد رغبة دفينة لدى" محمد " تتمثل في السعي إلى ولادة جديدة أكثر نقاء وصفاء وتجدرا في تربة الوطن(مشهد الاغتسال فوق رمال الصحراء والانتحار والاندفان )، و بحثا عن هوية جديدة وأصيلة، في آن معا ، لا تهتز لها أركان سواء داخل الوطن حيث يُسرق من "محمد" زمانه في وضح النهار ,أو في المهجر حيث يذبح زمانه على مصطبة الحرية وحقوق الإنسان...حتى وإن تطلب الأمر،في سبيل التعبير عن ذلك التشكيك في هوية مزعومة و متعالية حدَّ القداسة ( مشهد الآذان الذي صاحبه صوت نهيق) وهو مشهد مهما حاولنا أن نبرر عفويته و لامقصديته ،فإنه ليس من حقنا ،مع ذلك ،أن نضرب عرض الحائط بالقاعدة الذهبية في كل فن من الفنون والتي تقول أن "لا مجانية في الفن" وفي السينما على وجه التحديد... تنضاف إلى المؤشر الفضائي عن الزمان، في الشريط، صيغة أخرى للتأشير عليه هي صيغة الرمز، وذلك من خلال مؤشر الراحلة (وسيلة النقل ) حيث تبدأ الرحلة بوسيلة الطائرة وتنتهي بسفينة الصحراء (الجَمَل) مرورا بسيارة الأجرة. إذ يبدو منذ الوهلة الأولى ذلك التدرج الزمني لابتكار كل من هذه الوسائل الثلاثة واستحداثها ؛ فالطائرة حديثة والسيارة أقل حداثة والجَمل أبعد ما يكون عن الحداثة وأقرب إلى الطبيعة بالمعنى الأنتربولوجي لكلمة "طبيعة" . هكذا تبدو شخصية "محمد" وهي تمتطي زمنا قَهْقَرِيّا، زمنا يعود أدراجه إلى الوراء، بعد أن لم يعد بوسعه أن يساير إيقاع زمن المهجر الذي استنزف كل طاقاته وقواه الوجودية وأرداه جثة هامدة تقوى، بالكاد، على حمل نفسها والعودة بها حيث سكينتها الأبدية...،وبعد أن أخلفت(الشخصية) موعدها مع زمن التحول الذي طرأ على الوطن الأم فأصبحت تعاني من غربة مضاعفة؛ فظلم ذوي القربى أشد مضاضة كما يقول الشاعر. إن هذا البناءَ الدرامي القائم على التفريغ المتدرج للشخصية من كل مقوماتها الإنسانية التي تزودها بنسغ الحياة وبالقدرة على الفعل والمجابهة، بناءٌ يتم من خلال الهدم ليعكس لنا رؤية جدلية مفادها تلك المفارقة الوجودية المتمثلة في الحضور شكلا في هذا العالم والغياب فيه جوهرا ،إن هذا البناء الدرامي الجدلي للشخصية هو ما يجعل المتلقي يقبل بنهايتها التراجيدية تلك ، مما يجعل منها نهاية مبررة دراميا، وإن كان المتلقي لا يستسيغ أحيانا ذلك الإفراط في تجسيد رتابة الزمن التي تعيشها الشخصية، بحيث انعكس ذلك على خطاب الشريط نفسه ليصبح رتيبا هو ذاته، في بعض لحظاته، من خلال الإيقاع البطيء للصورة، والحركة البطيئة للممثل، والديكور الموحش ،ومن خلال لقطات مشهدية تجسد وحشة المكان و قتامته ،.ولقطات مقربة تجسد إحساسا بالغربة والضياع جسدتها اللقطة الأخيرة في الشريط حيث تتوارى الشخصية على إيقاع حبيبات الرمل التي كانت تذروها الرياح، والتي أخذت تكسو جثتها تدريجيا إيذانا بانمحائها من الوجود؛ أوعلى الأقل من هذا الوجود الذي ما زال يأسره الزمن العربي الآسن... محمد عبد الفتاح حسان