ليست السينما مجرد أفلام نشاهدها بغرض المتعة ومن تم نرميها في بقاع النسيان,بل السينما تتعدى ذلك بمراحل لترحل بنا إلى عوالم الإبداع ومحاكاة الحياة واستنبات رؤى وأفكار جديدة تستبق الواقع وتصور حال الذات الإنسانية وتبرز مدى قوة الصورة كتعبير عن الإبداع بأشكال جديدة. لم يكن احد يدري أن"من سيربح المليون",البرنامج الذي اشتهر في العالم بأسره,وبثته اكبر القنوات العالمية بمختلف اللغات, سيصبح قالبا يبنى عليه واحد من أقوى الأفلام التي عرفها تاريخ السينما,ففي الوقت الذي طالما اختزلنا فيه البرنامج كمجرد مسابقة تتكون من أسئلة للوصول إلى المليون,ظهر لنا "slumdog millionnaire" كفيلم استخدم البرنامج كأرضية للإبحار في عوالم المجتمع الهندي بكل تناقضاته و مشاكله,وللغوص في ماهية الإنسان الهندي المتأرجح بين حياة في الأزقة الفقيرة وبين حياة أخرى تتمظهر على شكل ناطحات السحاب ومراكز الاتصال. "جمال" فتى يبلغ من العمر عشرون سنة أو اقل بقليل,يصل بشكل مفاجئ إلى السؤال الأخير الذي يخول له الفوز بعشر ون مليون روبية,أثناء البرنامج كشف عن انه لا يعرف لا القراءة ولا الكتابة,وانه مجرد نادل بسيط في احد مراكز الاتصال بمومباي,الشيء الذي دفع بمخرج البرنامج إلى إرسال "جمال"قسرا إلى الشرطة بعد انتهاء الجزء الأول من البرنامج(بين الجزء الأول والثاني كانت هناك فترة استراحة دامت يوما كاملا),وذلك كي يعرف إجابة ذلك السؤال المحير,كيف يمكن لفقير ملعون أن يصير مليونيرا؟سؤال تم طرحه على من يشاهد الفيلم أكثر مما تم طرحه على "جمال" أثناء التحقيق,فهل هو إنسان عبقري,غشاش,محظوظ,أم كان مقدرا له أن يربح المليون؟؟ الإجابة نجدها عندما ينتهي الفيلم,لقد كان مقدرا له ان يصير مليونيرا,ليس بمستواه التعليمي المنعدم والذي ظهر جليا من خلال استعانته بالجمهور في سؤال عن علم الهند, او بحظ نزل عليه من السماء,بل كتب عليه ان يربح المليون نتيجة تجاربه المرة التي عاشها وهو لم يتجاوز بعد عتبة العشرين,وهذا هو ما جعل الشرطة تخلي سبيله وتتركه يكمل الجزء الأخير من البرنامج,ففي كل سؤال من الأسئلة,كان "جمال" يستنجد بذاكرته ليجد الإجابة,بدءا بالسؤال الأول عن النجم الهندي اميتاب,مرورا بأسئلة عن الإله راما وعن شاعر هندي وعن مخترع المسدس وعن رئيس أمريكي وعن جسر في لندن,وانتهاء بالسؤال الأخير عن اسم الجندي الثالث في رواية الكسندر توماس.هذه الأسئلة لم تكن موضوعة عبثا ففي كل سؤال نستشف عددا من الدلالات والرموز,وكمثال على ذلك فالسؤال عن ماذا يحمل الإله راما في يده اليمنى,بين على أن للهنود ارتباط بثقافتهم الدينية,عكس السؤال عن اسم ذلك الرئيس الأمريكي الذي توجد صورته في ورقة 100 دولار والذي بين أن هناك تأثيرا أمريكيا على الثقافة الهندية,كما أن السؤال الأخير عن الفارس الثالث كان عودة لنقطة البداية,بداية المعاناة التي تكبدها فرسان الفيلم الثلاثة "جمال","لاتيكا" و "سليم" في زمن لا يعترف لا بحجم البطولة ولا بحجم الألم. استنجاد"جمال" بذاكرته جعله يبين لنا بطريقة الفلاش باك عددا من الصور القاتمة التي يزخر بها الواقع الهندي والتي تحتار في أن تختار الأكثر سوداوية بينها, صور بينت البون الشاسع عن الهند الحقيقية وعن الهند التي نراها في السينما الهندية التجارية. من تلك المشاهد,أسوق صور الاكتظاظ في المدارس الهندية,المراحيض التقليدية التي يؤجرها الأخوان "جمال" و"سليم" في غياب قنوات الصرف الصحي, الصراع بين الهندوس والمسلمين و الذي أودى بحياة أم الطفلين أثناء هجوم هندوسي على قرية تابعة للأقلية المسلمة ,العصابة التي تستغل الأطفال وتوظفهم للتسول عن طريق اقتلاع أعينيهم لكي يشفق عليهم المارة, دور الدعارة التي تحفل بها دول العالم الثالث والتي تتنوع فيها المشاهد بين رضع يبكون وقاصرات تفتض بكارتهن على يد كهول ,فتى صغير يقوم بجريمة قتل,السرقة في القطارات,وصراع الإخوة وافتراقهم بعد أن تيقنوا أن لكل منهم درب مختلف في الحياة وأن لكل منهم طبيعة تختلف عن الآخر. غير أن هذه الصورة القاتمة عن المجتمع الهندي لا تلبث أن تتحول تدريجيا في الثلث الأخير من الفيلم,حيث نرى بلدا أخر تغزوه الثقافة الغربية,وذلك من خلال مراكز الاتصال التي تحتل حيزا هاما من الواقع الهندي, لعبة الكريكيت,وناطحات السحاب,لكن في كل مرة يذكرنا المخرج بمشهد قوي على أننا لا نزال نرى بلدا من البلدان النامية,ومن هذه المشاهد نجد المشهد الأخير من الفيلم:"جمال" يصير مليونيرا وفي نفس الوقت يقتل أخاه على يد العصابة التي يتعامل معها. وفي سياق آخر, يمكن أن نفهم ان الفيلم أراد أن يصور لنا أن الثقافة في الحياة لا تأتي بالضرورة من الكتب أو المعرفة أو المنصب الاجتماعي,بل تأتي أكثر من التجارب المرة التي تجعل من الإنسان يحفظ في ذاكرته عددا من الصور التي تحمل إجابات على عدد من التساؤلات الكبيرة للذات الإنسانية,وقد ذكرني الفيلم بمسيرة الكاتب المغربي الراحل محمد شكري الذي ذاق طعم المرارة قبل أن يتعلم الكتابة في عمر العشرين,فقسوة الحياة مثلت دائما دافعا قويا وراء النجاح. «slumdog millionnaire »وان كان مخرجه بريطانيا,ودار إنتاجه أمريكية,واغلب ممثليه هنود ممن يحملون الجنسية البريطانية,إلا انه احتفظ بعدد من مقومات السينما الهندية,كقصة الحب القوية التي جمعت بين "جمال" و"لاتيكا",والجريمة المنظمة في دروب مومباي,وجرعة الحماس الزائدة في نهاية الفيلم(اقصد هنا مشهد ذهاب "جمال" إلى البرنامج وتشجيع السكان له),وأكثر من ذلك ظهر الفيلم بوليووديا بالموسيقى التصويرية المتميزة التي أبدع فيها الموسيقار الهندي A.R.Rahman,فعلى غرار أعماله الكبرى ك"dil se"و"yuvvraaj",قدم لنا في الفيلم مقاطع موسيقية متناسقة فيما بينها تحس عندما تسمعها أن هناك فيلم قصير آخر يختبئ وراء الموسيقى المصاحبة للأحداث,ومن هذه المقاطع نجد « latika thème »وذلك في تثمين للموسيقى الهندية التي أتحفت العالم بعدد من المقاطع الرائعة. فيما يخص سيناريو الفيلم الذي كتبه Simon Beaufoy والذي اقتبس من الرواية الأصلية ل"Vicas swarup", فقد اتسم بنوع من التناغم مع أحداث الفيلم, ونوع من التهجين اللغوي,فتارة يكون بالانجليزية وتارة بالهندية,لكن أكثر ما امتاز به نص الفيلم هو استعماله لتقنية الفلاش باك بنوع من الحرفية جمع فيها بين 3 أزمنة مختلفة:الحاضر المتمثل في غرفة التحقيق,الماضي القريب المتمثل في البرنامج,والماضي البعيد الممتد من لحظات الطفولة إلى اللحظات التي سبقت اشتراك الفتى في البرنامج, عبر هذه الخطوط الثلاثة المتداخلة بتقنية سرد مبتكرة تم الانتقال في الفيلم زمانيًّا ومكانيًّا برشاقة شديدة لم تخلق أي التباس في ذهن المشاهد. أما الأداء التمثيلي في الفيلم,فالذي غلب عليه هو طابع التلقائية والبساطة,وقد كان هذا العامل سببا رئيسيا في نجاح الفيلم,وكان هذا أجمل ما أخذه الفيلم من بوليوود التي تمتاز بصدق الأداء,فالأطفال الذين أدوا جزء الطفولة لا تحس أبدا أنهم بصدد أداء ادوار بل تراهم كما لو كانت هذه هي حياتهم الحقيقية,نفس الشيء ينطبق على من أدى ادوار المراهقة,ولعل الأداء الأروع في الفيلم هو ل"Dev Patel" الذي تقمص دور "جمال" بكثير من الحرفية والإتقان رغم انه لا يزال في بداية مشواره السينمائي. من أكثر ما شدني في الفيلم,هو الإخراج المتميز ل"Danny Boyle",إخراج أعاد للأذهان عددا من الأفلام المتميزة لهذا المخرج,والتي تناول فيها عددا من المواضيع التي يمهلها مخرجون آخرون,لأنك قد تجد في كثير من الأحيان ما تريده في النهر ولا تجده في البحر,والهند كبلد صناعي جديد في الخارطة العالمية, كان مكانا مميزا تتجلى داخله صور الحضارة الجديدة وصور التخلف الذي لم تندثر معالمه بعد,وقد تجلت عبقرية الإخراج في تحكمه في لحظات الفانتازيا والاندفاع العاطفي ببراعة,فقد كانت تفاصيل الفيلم لتبدوا كلها مجرد حظ ومصادفات لولا الإخراج المتميز الذي كيفها مع الفيلم وجعل ذهن المتلقي يتقبلها بل ويعيش معها ويراها كلحظات غارقة في الواقعية أكثر مما تغرق في الصدفة والخيال. إخراج Danny Boyle لم يتوقف عند هذا الحد من الإبداع,بل تجاوزه ليبث في نفسية المشاهد نوعا من الأمل ومن التفاؤل بالمصير,فما دمنا نؤمن بما لدينا من إمكانات,وما دمنا نسلم بالمصير والقدر ونتكيف معه دون إغفال أحلامنا الصغيرة والكبيرة,فالأكيد أننا لم نخسر شيئا,والدليل على ذلك هو "جمال" الذي شارك في البرنامج من اجل أن يلتقي مرة أخرى برفيقة حياته "لاتيكا" أكثر مما رغب في الحصول على الملايين. من كل هذا وذاك,لم يكن صدفة ان يترشح الفيلم لأكثر من جائزة عالمية,و أن يفوز ب8 اوسكارات,فإلى جانب جائزتي أفضل فيلم, وأفضل إخراج, حصد كاتب السيناريو أوسكار أفضل سيناريو أعد للسينما, كما حصد الفيلم أيضا جوائز أوسكار لأفضل تصوير وأفضل مؤثرات صوتية وأفضل مونتاج وأفضل موسيقى تصويرية، وأفضل أغنية,وان يأخذ اكبر تقييم في موقعIMDB ,فرغم أن الفيلم صور بميزانية محدودة لم تتجاوز 10 ملايين دولار,ورغم أن اغلب ممثليه مغمورين,ورغم أن كبريات شركات الإنتاج رفضت في بادئ الأمر إنتاج الفيلم لكونه ليس بتلك النوعية التجارية.إلا انه أعطى رسائل قوية لجماهير السينما العالمية,لان مثل هذه النوعية من الأفلام تجعلك لا تكتفي بمشاهدة واحدة,وتحيي في إحساسك الباطني عددا من الأسئلة حول واقعنا,وتلهم عقلك بعدد من الصور الجميلة الممتدة بين الموسيقى التصويرية والأداء وطرق تحرك الكاميرا,فباختصار Slumdog Millionnaire يجعلك ترفع له القبعة. ختاما لا يسعني أن أقول إلا أن تكونوا مستعدون,إخواني عشاق السينما للتشويق,لقصة حب أسطورية,لخليط من المشاعر الإنسانية,لعدد من الوقائع المرة,لجمالية الصورة,فهذا الفيلم ليس من طينة الأفلام التي نمر عليها مرور الكرام,أو التي نغط في نوم عميق بعد مشاهدتها,بل هو من تلك الجينة من الإبداعات التي تبقى في ذاكرة كل عاشق للفن السابع. إسماعيل عزام (الموضوع الفائز بالجائزة الوطنية الأولى للنقاد السينمائيين الشباب)