الزيارة التي يقوم بها وزير الخارجية التونسي النفطي إلى الجزائر، والاهتمام البالغ الذي حظيت به من السلطات الجزائرية يؤكد أن نظام الكابرانات مصرّ على مواصلة اللعب بموازين القرار السياسي في تونس وتوجيهه نحو اختياراته العدائية، ولا سيّما فيما يتعلق بمعاكسة الوحدة الترابية للمغرب. وفي هذا السياق يشير تصريح الوزير التونسي في أعقاب لقائه بالرئيس الجزائري إلى الاستحقاقات المشتركة على الصعيد القاري ومن أبرزها طبعا انتخابات المفوضية الإفريقية المرتقبة في شهر فبراير المقبل. لكن الزيارة تأتي أيضا في سياق الأزمة التي تعيشها تونس على مستوى توفير مادة الغاز في أسواقها بعد موجة برد شديدة. وانطلاقا من معرفتنا العميقة والمسبقة بالنظام الجزائري من الواضح أن زيارة الوزير التونسي تنطوي على أجندة جزائرية خالصة، وهو ما عبر عنه المسؤول التونسي بإسهاب في الحديث بلغة الخشب، وإشارته إلى إعداد البلدين خطة عمل ناجعة لتعزيز التعاون بينهما. لكن ما طبيعة مجالات التعاون المذكورة؟ من المؤسف أن نؤكد أن العلاقة بين البلدين الجارين أصبحت مشوبة بالكثير من الاختلالات منذ تولي قيس سعيد مسؤوليات الرئاسة في تونس، وإقدامه على منح الجزائر صكا على بياض مقابل الامتيازات والمساعدات المباشرة التي يمنحها الكابرانات إما في شكل هبات مالية، أو دفعات من البترول أو الغاز. يحدث هذا كله مع أن النخب التونسية الحاكمة تدرك جيدا أن نظام الكابرانات لا يفعل ذلك حبا في تونس والتونسيين، وإنما مقابل التدخل السافر في الشؤون الداخلية للبلاد التي أنهكتها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وهشاشة النظام الحاكم وارتهانه لمن يدفع أكثر. لقد كانت تونس قبل قيس سعيد رمانة الميزان في المغرب العربي وشمال إفريقيا، لكنها اختارت أخيرا هذا التوجه السهل الذي يمنح شعورا زائفا بالراحة والاستقرار، مقابل مسايرة ما ترغب فيه العصابة العسكرية في الجزائر ولو من خلال تصريحات مجامِلة أحيانا. صحيح أن السلطات التونسية ما تزال إلى يومنا هذا تحاول الحفاظ على حالة من الحياد، لكنها مع ذلك تضع نفسها تحت ضغوط هي في غنى عنها. لماذا تصمت سلطات تونس مثلا عن مصير أراضيها المقتطعة خلال فترة الاستعمار لصالح الكيان الجزائري الذي اختلقته فرنسا؟ هل نسي التونسيون صحراءهم الغربية التي أصبحت بقوة قادر جزءا من التراب الجزائري؟ هذا هو النضال الحقيقي الذي لا تريد حكومة قيس سعيد أن تتحمله وتقوده لأنها تفضل للأسف الاستفادة من بعض الرشاوى السياسية الحقيرة التي يمنحها الكابرانات. لقد كانت تونس على غرار المغرب وموريتانيا وليبيا متضررة باستمرار من مناوشات النظام الجزائري، وكادت تدفع أثمانا باهظة من استقرارها ووحدتها في لحظات تاريخية معينة، لكن القيادة التونسية الحالية نسيت ذلك كله، ووضعت البلاد في كف عفريت وفي طبق من ذهب أمام العسكر، لأنها انخرطت في مسايرة التوجه الجزائري المثير للقلاقل والتوترات. لذلك من الضروري تحذير السلطات التونسية من الانسياق المبالغ فيه وراء هذا التعاون المسموم. من حق تونس أن تعزز علاقاتها مع دول الجوار، وأن تنمي آفاق التبادل التجاري والسياحي معهم، وأن تستفيد من الثمار الاقتصادية لهذه العلاقات، لكن يجب أن يكون ذلك كله في ظل احترام الثوابت التاريخية للبلاد، وعلاقاتها الراسخة مع كل دول المنطقة، بعيدا عن الخضوع لمنطق الابتزاز أو المساومة. ونحن في المغرب نكنّ لتونس والتونسيين الكثير من الاحترام والتقدير على مدار عقود طويلة من النضال المشترك، لكننا نحس اليوم أن هذا البلد الشقيق فقد الكثير من روحه المتوازنة والميّالة إلى التوحيد والمشاركة وتعزيز الوئام العربي والإفريقي. وكأنه تعرض للاختطاف منذ بضع سنوات، ومع ذلك فإن صوت العقل في تونس هو الذي ينتصر دائما في النهاية. فالبلد الذي أنجب فرحات حشاد ولحبيب بورقيبة لا يمكن أن يصبح بسهولة دمية يتحكم فيها دعاة الفُرقة والنزاع بسبب أزمة عابرة.