لم تمنع نسبة المشاركة الضعيفة التي شهدتها الانتخابات الرئاسية في الجزائر اليوم وزير الاتصال الجزائري من التأكيد قبل انتهاء التصويت أن هذه النسبة الضعيفة لا تطعن في شرعية الانتخابات. وبينما لم تتجاوز نسبة المشاركة في الاقتراع الوطني حتى الساعة الخامسة بالتوقيت المحلي 26.46% ونسبة المشاركة في المهجر 18.81%، مع اضطرار السلطات إلى تمديد فترة التصويت حتى الثامنة مساء بالتوقيت المحلي لم يتأخر ممثلو النظام العسكري في تزكية اقتراع حُسم قبل أن يبدأ. وعلى الرغم من أن السلطات فعلت كل ما في وسعها لإفراغ الساحة السياسية من المنافسين الحقيقيين وتزيينها بمرشحين يدعمون مرشح العسكر، فإن حالة التوجس والقلق ظلت مسيطرة عليها. لم يتردد نظام الكابرانات في اللجوء إلى ممارسات قديمة في توجيه الانتخابات مثل إلزام الجنود وعناصر الجيش والشرطة بالتصويت. وقد بدا مشهد هؤلاء الناخبين المجندين وهم يرتدون زيا مدنيا ويتسابقون لولوج بعض مكاتب التصويت مثيرا للذهول، ولا سيّما أن معظم الشرائح الشابة في الجزائر اتخذت قرار مقاطعة الانتخابات. فقد ردّد الشباب في ملعب وهران قبل يومين شعارات تدعو لمقاطعة الانتخابات في الملاعب الرياضية. وصدحت جماهير العديد من الأندية بشعار: " "والله ما نفوطي، والله ما نفوطي...حراگة في بوطي"، في إشارة إلى عدم ثقتهم بمصداقية الانتخابات الرئاسية التي يشارك فيها مرشح العسكر، الرئيس الحالي عبد المجيد تبون، الذي يعد الأكثر حظا للفوز بها. شعار "والله ما نفوطي" هو نفسه الذي عبّر عنه عملياً معظم الناخبين الجزائريين الذي فضّلوا المقاطعة بسبب انعدام الأمل في إمكانية إحداث التغيير الديمقراطي المنشود، وغياب أيّ مساءلة للرئيس الحالي حول حصيلة العهدة المنتهية وفشله التام في تحقيق الوعود التي قدمها سنة 2019 خلال حملته الانتخابية الرئاسية السابقة. وعلى الرغم من أن نسبة المشاركة قد تقفز تصاعديا بفعل تدخل السلطات وتضخيم الأرقام مع نهاية الاقتراع، ولا سيما بعد إعلان نتائج الانتخابات، إلا أن أجواء المقاطعة لم تخف لا على المواطنين ولا على المراقبين في الداخل والخارج. ويطرح ضعف نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية الجزائرية سؤالا جوهريا حول مدى شرعية النظام الحالي. فمن المؤكد أن الناخبين الجزائريين الذين يمتلكون وعيا سياسيا تراكم بفعل تجارب الماضي الأليمة أو الواعدة يدركون جيدا أن الرئيس عبد المجيد تبون ليس سوى واجهة لنظام الكابرانات، الذي يمتلك الصلاحيات السياسية والأمنية والدبلوماسية الكاملة. ومن ثمّ فإن مقاطعة مهزلة الانتخابات ليس في الحقيقة سوى مقاطعة أيضا لاقتراع يمكن أن يعطي شرعية مفقودة للمؤسسة العسكرية التي تدير المشهد. عزوف الناخبين الجزائريين عن الانتخابات الرئاسية ضربة موجهة مباشرة لقيادة الجيش التي اختارت أن تقدم في الواجهة رئيسا لم يعط أيّ شيء للشعب الجزائري، بل جلب له الكثير من المعاناة والمشكلات الإضافية، علاوة على عجزه عن تبرير شرعية النظام وإثبات مكانته والحاجة الماسة إلى استمراره. لقد حاول المواطنون الجزائريون التخلص من نظام "العصابة" كما كانوا يطلقون عليه خلال حراك فيفري الشهير، لكنهم وجدوا أنفسهم اليوم بعد تواري عدد من الرموز، في مواجهة النظام نفسه الذي استطاع تجديد هياكله بالتخلي عن جيل عبد العزيز بوتفليقة وقايد صالح، وتعويضهما بجيل السعيد شنقريحة وعبد المجيد تبون. لذا؛ إذا افترضنا أن نسبة المشاركة في الانتخابات الجزائرية قد وصلت إلى 30 أو 40 في المائة بعد نفخ الأرقام وتعديلها، فهل تمنح هذه النسبة الشرعية الكافية للنظام الذي لا شرعية له أصلا سوى علاقته التاريخية بالدبابة والبندقية؟ وهل يمكن اعتبار انتخابات يُسمح فيها بمشاركة الجنود ورجال الأمن وموظفي الاستخبارات انتخابات نزيهة وذات شرعية؟ من المؤكد أن فوز الرئيس الحالي أمر محسوم منذ زمن، ما دام مرشحا رسميا للعسكر، لكن من المتوقع أيضا أن تترك هذه المهزلة الانتخابية آثارها البليغة في ضعف شرعية النظام، وتفتيت قواعده الاجتماعية التي يعوّل عليها. وإذا كان التزوير حلا سهلا وفعالا في الوقت الراهن، فإن قتل أحلام الشباب الجزائري وتفويت فرصة جديدة من فرص الدمقرطة وبناء النظام المدني الذي يطالب به غالبية الجزائريين منذ زمن طويل مغامرة أخرى لا يمكن أبدا التنبؤ بمآلاتها أو تداعياتها المستقبلية. لقد قاد الرئيس الحالي عهدة رئاسية كاملة بأداء سياسي هزيل وغير مقنع حتّى للأطفال الجزائريين، فما بالك اليوم وهو يعود إلى القصر الرئاسي دون أيّ قواعد اجتماعية أو شرعية حقيقية تمنحها صناديق الاقتراع !!