من الواضح أن إسرائيل قبلت اتفاق الهدنة الإنسانية المرتقبة تحت ضغط عاملين: العامل الداخلي المتمثل في أُسر الأسرى الإسرائيليين الذين واصلوا احتجاجاتهم منذ 8 أكتوبر لاسترجاع أفراد عائلاتهم. والعامل الخارجي متمثلا في ضغط الرأي العام العالمي بعد أن انكشفت إسرائيل باعتبارها تمارس إرهاب الدولة وترتكب جرائم حرب فظيعة تناقلتها وسائل الإعلام العالمية. لو كان الأمر بيد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لاستمرت الحرب دون توقف حتى وإن لم تحقق أهدافا استراتيجية من بين الأهداف المعلنة. لهذا تبدو الهدنة الإنسانية اليوم فرصة للطرفين لالتقاط الأنفاس ومراجعة الاستراتيجية ولملمة الجراح. بالنسبة لحركة حماس فهذه الهدنة فرصة لتهدئة الداخل الفلسطيني ولا سيّما في الأوساط الشعبية المتضررة من العدوان الإسرائيلي. هناك حاجات إنسانية عاجلة مثل إسعاف الجرحى وتزويد النازحين باحتياجاتهم الغذائية والإنسانية وتنظيم عمليات استخراج الضحايا العالقين تحت الأنقاض. لكن هذه الأهداف الإنسانية ليست مهمة ماس وغايتها وحدها، هناك أيضا حاجة عسكرية للتزود بالذخائر وترتيب الترسانة الموجودة وإعادة تعزيز الاتصال بين كتائب القسام الميدانية والقيادات السياسية في الخارج. لكن أهم جانب ستركز عليه حماس في مرحلة الهدنة الإنسانية هو تعميق الحرب النفسية ضد إسرائيل، بإظهار المزيد من أشكال الهزيمة الإسرائيلية واندحار الجنود الإسرائيليين، ثم تعزيز الضغط على المجتمع الإسرائيلي من خلال الإفراج على عدد محدود من الأسرى. عودة هذا العدد المحدود من الأسرى إلى إسرائيل واستمرار حماس والفصائل الفلسطينية في الاحتفاظ بالبقية يمكن أن يضع عبئا إضافيا على عاتق حكومة نتنياهو التي تواجه كل يوم تزايد الاحتجاجات المطالبة بعودة الأسرى جميعا. بعبارة أخرى، ستخلق العودة الجزئية للأسرى إلى إسرائيل حرجا للحكومة الإسرائيلية أمام مواطنيها، وستُظهر فعليا أن تل أبيب انهزمت في المواجهة التي دامت أكثر من 46 يوما دون تحقيق أهداف معينة. كما أن إفراج إسرائيل رغما عن أنفها على المعتقلين الفلسطينيين سيمثل دفعة معنوية لحركة حماس والمقاومة في غزة، لا شك أنها ستوظفها على المستوى الإعلامي من أجل تبرير عملية طوفان الأقصى التي نفذتها في 7 أكتوبر الماضي وكانت سببا في هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم. يبدو إذا أن الهدنة الإنسانية قد تصب كثيرا في مصلحة حماس من الناحية المعنوية. لكن لإسرائيل أيضا غايات معينة من وراء قبول الهدنة. إنها في حاجة ماسة إلى مراجعة استراتيجيتها العسكرية في شمال قطاع غزة، حيث قُتل العشرات من الجنود الإسرائيليين ودُمرت عشرات الآليات العسكرية الإسرائيلية بفضل الضربات المركزة التي يوجهها مقاتلو حركة حماس. تريد إسرائيل أن تواصل القتال، لكنها لا تريد أن تخسر المزيد من الجنود والضباط في المواجهات العسكرية. وعلى الرغم من تأكيدات رئيس الحكومة والقيادات العسكرية أن الحرب ستتواصل بعد انتهاء الهدنة الإنسانية إلا هذا الادعاء يبدو موجها بالأساس لإسكات الداخل الإسرائيلي لا أقل ولا أكثر. أما على المستوى الدولي والخارجي، فمن الواضح أن إسرائيل سمحت بهذه الهدنة للحد من الضرر الفادح الذي لحق صورتها وسمعتها على المستوى العالمي. الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل تحت تأثير الرغبة في الانتقام كانت فادحة وتاريخية إلى درجة أثرت في الرأي العام العالمي وهزت الحصانة الإعلامية التي كانت تتمتع بها الدولة العبرية لا سيّما في الدول الغربية. ومن ثم فإن قبول الهدنة الإنسانية مجرد محاولة إسرائيلية خاسرة لإدارة العلاقات العامة وتحسين الصورة المخدوشة بدماء الأطفال والنساء الفلسطينيين. استهداف المستشفيات والمساجد والمدارس وقتل المدنيين بالآلاف وتدمير المربعات السكنية كلها جرائم ستنكشف أكثر بعد الهدنة، وعلى الرغم من ذلك تجد إسرائيل نفسها مجبرة على لعب ورقة العلاقات العامة بناء على نصائح حلفائها الغربيين. بعد سريان الهدنة سيحل المزيد من الصحافيين ووسائل الإعلام بقطاع غزة، ولا شك أن الصور التي سينقلونها إلى العالم ستزيد من الضرر الذي لحق صورة إسرائيل. وهنا من المؤكد أن حماس ستبذل كل ما في وسعها من أجل إلغاء احتمال العودة إلى الحرب من خلال كشف هذه الجرائم وتداعياتها الإنسانية الخطيرة.