هذا كتاب مكسب للمؤلفات التي تُصنف في مقام "فلسفة الدين"، والتي نعاني خصاصاً منها بشكل كبير، كما أشرنا إلى ذلك مراراً، ونتحدث عن الخصاص في المجال الثقافي الإسلامي السني، بخلاف السائد في نظيره الشيعي، كما تشهد على ذلك لائحة من الأسماء والأعلام هناك، بينما لا زلنا نعاني الشيء الكثير هنا في المجال السني، بما في ذلك المغرب السني، من إقناع فقهاء وعلماء المؤسسات الدينية بفتح الأبواب للاشتغال على الفلسفة، فالأحرى فلسفة الدين، وهذا عينُ ما كان يُميز العديد من العلماء والفقهاء منذ قرون مضت، في العالم الإسلامي وفي المنطقة العربية وفي المغرب الأقصى، لولا أن التطورات الدينية التي طالت المنطقة خلال العقود الأخيرة، ضمن تطورات تاريخية أخرى، ليس هذا مقام التفصيل فيها، أفضت إلى ندرة الأعمال التي تُصنف في باب "فلسفة الدين"، ولعل أبرز هؤلاء اليوم، الفيلسوف السنغالي سليمان بشير ديان. نحن في ضيافة كتاب ألفه مؤخراً الباحث والفنان د. محمد التهامي الحراق بعنوان: "مُباسطات في الفكر والذكر"، وصدر عن منشورات "دار أبي رقراق للطباعة والنشر" بالرباط، ضمن سلسلة "مسارات في البحث"، والعمل كما نقرأ في تقديم الكتاب (ص 9)، نُشرت الصيغ الأولى لجل مواده في مجلة "أفكار" المغربية، في ركن شهري بعنوان "إشراقات"، ما بين 2017 و2018، والعمل أيضاً، هو المُنجَزُ السادس في لائحة أعمال محمد التهامي الحراق المنشورة، ويقع في 212 صفحة من الحجم المتوسط، وقدْ تصدَّرت غلاف طبعته الأنيقة لوحةٌ زيتية جميلة للفنان محمد غولامي، حيث يستأنِف المؤلف، خلال هذا العمل، توسيع الأفق المعرفي النقدي والروحاني الذي افتتحه في كتابه السابق "إني ذاهب إلى ربي: مقاربات في راهن التدين ورهاناته"، والصادر عن نفس الدار عام 2016. لذلك أول مفتاح في قراءة الكتاب نوجهه للقارئ الكريم، يكمن في أهمية قراءة الكتاب السابق لأنه تضمن ما نعتبره أولى محطات إعلان المؤلف عن مشروعه العلمي، والموزع على الاشتغال النظري، انتصاراً وتعريفاً وترويجاً لثلاث رهانات: رهان العقلنة ورهان الرّوحنة ورهان الجمال، وليس صدفة أنه كتابه "إني ذاهب إلى ربي" جاء موزعاً على هذه الأبواب الثلاثة، وهي رهانات كما أشرنا حينها أثناء التعريف بالكتاب سعى الكتاب إلى اتخاذها مداخل لطرح أفق مصالحة المسلم مع الحداثة، عبر الإسهام في ترشيد الفهم السقيم السائد اليوم للإسلام، والذي تطوقه، حسب الكاتب، آفات طَبَعَت تديننا، لا دينَنَا، بخفوتِ "العقلانية" بما هي فعل في التاريخ وتأسيسٌ للحقيقة ضمن صيرورة التطورات العلمية والإبستيمية، مثلما طَبَعَتْه بذبول "الروحانية" بما هي إنتاج للتقديس وتغذية للظمأ الأنطولوجي للمعنى. كما توسلّ الكتاب ذاته، من خلال هذه الملامح، بالبعد النقدي التساؤلي من أجل الإسهام في المسعى التنويري للممارسة الدينية اليوم، كما يروم المساهمة في فتح آفاقٍ من شأنها دعمُ تجديد الخطاب الديني بما يجعل الإسلام اليوم أفقاً مستقبلياً كونياً للهداية، تتواشج فيه، وضمن المعقولية الحديثة، "العقلانية" و"الروحانية"؛ أي تساؤلية العقل وطمأنينة القلب. تنطبق المقاربة نفسها على كتاب "مُبَاسَطَاتٌ في الفكر والذكر" لأننا كما سلف الذكر، إزاء مشروع علمي، يُنشر اليوم عبر محطات أو عبر أعمال، كما هو الحال مع العديد من الأعلام في المغرب والمنطقة وفي هذا المجال الثقافي أو غيره، وهكذا نقرأ في نص ظهر الغلاف: "الاحتفاءُ بجَدَل العقلِ والروحِ هو قِبْلةُ هذه المُباسطات". إنها تقترح أفكاراً بنسْغِ النقد وبِنُسْغِ الذكرّ؛ وتحاول التفكير في بعض مسارات الحداثة انطلاقاً من أسئلة الروح، مثلما تقترب من ظمأ الأرواح للمعنى انطلاقاً من أسئلة الحداثة". يُحدد المؤلف في مقدمة الكتاب، الرهانَ الأساس لعمله في تفعيل "جدَلِ العقلِ والروح"، والإسهَام في الجمع بين "النقد" الذي يمثِّل روحَ الحداثة، وبين "الوجد" الذي يُمثل انتعاشةَ الروح؛ وذلك من خلالِ مباسطات تروم عقد حوار مُثمر بين "أنوار الإسلام" و"أنوار الحداثة"، طلباً لإنقاذ متبادَل من "أزمة المعنى" التي يُعانِي منها كل منهما في السياق التاريخي الراهن، والتي بَسَط الكاتب معالمَها في ثنايا كتابه. نقرأ من عناوين الدراسات والمقالات: في "القراءة التدبرية" والتقاط التعالي، القرآن الكريم وضرورة السؤال، أزمة المعنى وسؤال الدين، أنوار الإسلام وإسلام الأنوار، الطبيعة في الأفق الروحاني الإسلامي، الكوارث الطبيعية من منظور ديني رحموتي، في خصائص المنظومة الأخلاقية في الإسلام، معالم من جمالية التدين، ذوداً عن روحانية الشعائر الدينية، في النقد المعنوي للاسترقاق الرقمي، المرأة في الإسلام: مداخل نقدية للتفكير، من أجل وعي متجدد بمكانة المرأة في الإسلام، عذراً رسول الله: عن مرآتينا المهمة، وإذا الحسن بدا فاسجد له، وعناوين أخرى. حضور التصوف كان جلياً في العمل، من خلال عناوين الدراسات والمقالات التالية: مطلتان على الحضور الشعري في التجربة العرفانية الأكبرية، نشقات أذواق من ديوان "ترجمان الأشواق"، جدلية الحب الحسي والحب الصوفي في العرفان الأكبري [نسبة إلى محيي الدين بن عربي]، إليف شافاق ورهان تقعيد العشق، رشفة من قهوة مولانا [الإحالة هنا على جلال الدين الرومي]، الحلاج: شهيد النغم. تضمن العمل حواراً أجراه مع المؤلف الأديب والإعلامي محمد اشويكة، وجاء الحوار بعنوان "فن السماع الصوفي وأبعاده الروحية والجمالية". (من ص 202 إلى ص 211) نزعم أن هذا الكتاب يستحق أن يوزع على المؤسسات الدينية والتعليمية في المنطقة العربية، لاعتبارات عدة، منها ما أشرنا إليه سلفاً، أي موضوع الخصاص الكبير في أدبيات "فلسفة الدين"، ومنها كذلك انتصار المؤلف لخيار "الطريق الثالث" في تناول العديد من قضايا الساعة، بعيداً عن القراءات الإيديولوجية المتشنجة والطاغية على التداول الثقافي المغربي والعربي والإسلامي، ونقصد بها الإيديولوجيات الدينية الحركية، والإيديولوجية المادية التي ترفع شعارات العلمانية أو الحداثة، ويمكن التأكد من معالم هذا الطريق الثالث، وهو طريق وسط ونافع، ولا علاقة بالانغلاق الإيديولوجي للمرجعيات سالفة الذكر، عبر قراءة تفاعل المؤلف مع ملف القراءات القرآنية، أو تناول قضايا المرأة، ثنائية الدين والحداثة وغيرها من القضايا الحارقة التي تمر منها الساحة هنا وهناك، والتي أفضت إلى ولادة ظاهرة "صدام الجهالات" بتعبير إدوارد سعيد، سواء تعلق الأمر بالجهالات المحلية أو الدولية. تبني "الطريق الثالث" سالف الذكر، نعاينه أيضاً في دراسة "في القراءة التدبرية والتقاط التعالي"، حيث اعتبر المؤلف أن "ذهاب المسلمِ اليوم إلى "مجالسة" و"مدارسة" و"محاورة" القرآن الكريم ذات مستويات، أدناها الاستجابة الناجمةُ عن الألفة مع النص ولغته وموسيقاه وهدايته المستمدة من أفق إيماني موروث؛ أفق بدأ يفقد صفاءه من خلال اختراقات العولمة وتعددية أصوات العالَم وصور التديّن فيه، وكذا من خلال انفتاحِ سوق المعنى وتجريفه الشرس من لدن طوفان الاستهلاك والتبضيع الذي لا يُبقي شيئاً في الحس والمعنى دون تسليعه، فضلاً عن كون هذه الاستجابة سياقيةً ومنبثقةً من لغة وبيئة واتجاهات ما تفتأ تتشدد لكي تُقاوم الطوفان المذكور؛ وأرقى مستوى تلك الاستجابة هو التثاقف الخلاق مع النص بما هو وحي يثمِر معرفةً ومحبة، فهماً وذوقاً. وهذا المستوى الجامعُ بين التسآل الابستيمولوجي والاستشفاف الروحاني، الواشجُ بين "العقل المتسائل" و"القلب المطمئن" على غرار أنموذج " الرُّشد الإبراهيمي" الوارد في القرآن الكريم؛ والذي تؤسسُ له العلاقة المخصوصة بين "العقل" و"القلب" في النسيج القرآني". (ص 25) يُحسبُ للمؤلف أيضاً أنه رفض الانضمام إلى طائفة "الأغلبية الثقافية الصامتة"، ونقصد بها مجموعة من الأقلام البحثية، التي تتفرج على أحداث الساحة دون أن تحرك ساكناً، بما فيها الأقلام التي تشتغل في مؤسسات الدولة، والتي تعمل بقاعدة: "اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون"، [بمقتضى الآية القرآنية الكريمة]، بخلاف الأقلام الإيديولوجية التي تعج بها الساحة، والتي تروج أوهام "دولة الخلافة" أو "الدين أفيون الشعوب" وشعارات إيديولوجية من هذه الطينة. لا يكتفي الكتاب بإبراز قَسَمات وعلامات هذا الأفق الحواري التنويري، والنقدي الإنقاذي، الذي يطلبه في التعامل مع الإسلام والحداثة، وهو الأفق الذي ينعتهُ المؤلّف ب "العقلاني الإيماني" وب "الإنسي الكوني" وب"الجمالي الرحموتي"؛ بل يعمد إلى تبيان أسسِ هذا الأفق، ويعمل على تقديم مقاربات تطبيقيةٍ نموذجية في ضوئه لقضايا وأسئلةٍ راهنةٍ؛ كما هو شأن معالجتهِ لقضايا قراءة القرءان الكريم، ولأسئلة التعامل مع الدين والأخلاق والطبيعة والمرأة والعالم الرقمي والجمال والفن. كتاب "المباسطات" حاضر في التفاعل مع أحداث الساعة العلمية والتقنية، منها التحديات المرتبطة بالعالم الرقمي، كما نقرأ في مقالة "في النقد المعنوي للاسترقاق الرقمي"، حيث خلُصَ إلى أن "الآثار الأخلاقية والقيمية والروحية والمعنوية الوخيمة للاسترقاق الرقمي متعدِّدة، لكنها تظهرُ أساساً في ما تقوم به الاستهلاكيةُ في إطار العولمة التقنية من ابتلاعٍ واسترقاق للإنسان في الوقت الذي توهمُه بالحرية؛ ذلك أن هذه الاستهلاكيةَ توهمُه أنه يعيش في حاضرٍ أزلي يبتلعُه بحيث يجعل منه كائنا بلا ذاكرة، يستزيد دوما وينقصه دوما ذاك الآتي، إشباع رغباته النفسية والجسدية لا يكتمل أبداً. إنه يجري نحو هدف متوهَّم، وهو في الحقيقة يجري على طريق بلا نهاية ولا اتجاه؛ إذ ما يهم الاستهلاكيةَ العالميةَ هو أن "يجري ويستهلك"، مما يحوله إلى إنسانٍ بلا غاية ولا بوصلة ولا حرية"، مضيفاً أن "الضرورة ملحةً للدعوة إلى ثورة إنسية روحية، يكون من مقاصدها الإسهامُ في إعادة أنسنة وروحنة علاقة الإنسان بالتقنية؛ وذلكَ من أجل طرح أفق آخر للتعامل معها؛ أفق يجعل الإنسان متسيّداً في الطبيعة لا على حسابها، منشغلاً بإنسانيتهِ لا منشغلاً عنها بتدميرها، باذلاً لاستعمال التقنية بشكل يكفل له تثمين حريته لا اغتيالَها؛ إنها القيم الإنسية الكونية الرحموتية التي ظل الإنسان يتوق إليها ويضحي من أجلها، سواء باسم التعالي المفارق أو المعرفة المحايثة، باسم الروحِ أو العقلِ، باسم "إنسان الكعبة" أو باسم "كعبة الإنسان". (ص 98) ومما يُحسبُ للمؤلف أيضاً، الانخراط المسؤول في ممارسة النقد الذاتي للخطاب الصوفي، في زمن يتميز بعودة التصوف على الصعيدين الإسلامي والغربي، دون أن ننتبه إلى أن التصوف يُعاني الشيء الكثير اليوم، من فرط التحديات التي يمر منها، حتى لا نتحدث عن أمراض يمر منها، سواء علِمَ بها أهلها أم لا، وهي التحديات التي انخرط مؤلف الكتاب في التفاعل معها عبر بوابة النظر والعمل.