وحده عنوان هذا المقال، في حمولته الدلالية، وفي ارتباطه بمناسبة ندوة الإلحاد التي أقيمت بمدرج المفكر المغربي عبد الله العروي، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، الدارالبيضاء، والتي رمى من خلالها السيد المقرئ الإدريسي أبو زيد العالم الفيزيائي الكبير ستيفن هوكينغ ببلادة الحمار، بكل ما يضمر ذلك من مفارقات غريبة ومفزعة، قادر على بسط المسافة الضوئية بين عالمين مختلفين أشد ما يكون الاختلاف، ومتباعدين أكبر ما يكون البعد والابتعاد، باعتبار الابتعاد قراراً ابستيمولوجيا يحمل في طياته، مفهوم التجاوز الذي قاد العقل في انفصاله عن الخرافة والجهل، إلى تحقيق تقدم علمي وتكنولوجي رهيب، في بعده النظري، ويحقق مصالحة السماء مع الأرض، من خلال ما تحقق من إصلاح ديني بالغرب المسيحي، الذي بفضل العقل العملي. فبفضل هذا التجاوز أعاد الغرب الأمور إلى نصابها بفصل السلطة الدينية عن الدنيوية، وفصل السياسة والدولة عن العقيدة، لطالما كان للدين مجاله وللعقيدة فضاؤها الخاص، وكانت السياسة ومجالها المصالح، متباينين على مستوى المنشأ والمبنى، وهو ما سمح بأنسنة السياسة وروحنة الدين، بعد أن أفقده رجال الدين في تحالفهم مع السياسية والسلطة روحه المرحة، بكل ما تطلب ذلك من مسارات وتحولات شهدها الغرب. بالمقابل، كانت المجتمعات العربية مشدودة إلى ماضوية التفكير معاقة عن كل حركة تبتغي التقدم والتطور، وهي ما تزال تئن إلى اليوم تحت وصايا الأموات. إن العنوان في قراءته التأويلية، كما التفسيرية، قادر على جعل المقارنة ضرباً من العبثية والعدمية، إذ لا يجوز بأي حال من الأحوال، ومهما كانت السياقات والمقامات، مقارنة رجل يعتبر نفسه ناطقاً باسم السماء، وحائزاً على وكالة التصرف باسم الله، كما هو شأن كل رجال الدين، الذين نصبوا أنفسهم وسطاء بين الله والبشر، باسم العقيدة، وباسم الإيمان، حتى وإن كان قد هذا الايمان قد بني على الجهل، وبين رجل وهب حياته الزاخرة، برغم المرض والمعاناة لخدمة العلم والبشرية، دون تموقع مذهبي أو هوياتي ضيق، معلنا خصامه المبكر مع الهويات القاتلة بتعبير أمين معلون، ودون ادعاء أو حتى تبجح، وهو الذي لم يشهد التاريخ المعاصر، بكل ما قدمه من تجاوز علمي لمختلف النظريات العلمية السابقة عليه، أن نطق بكلام نابي أو سب وشتم، ولعله كان مخلصا في صمته للغة المتصوفة في وحدة الحلول. هو الصمت الناطق الذي يقابله الصراخ والضجيج، بكل ما يفصل الكلام في بعده الفاعل والإنجازي بتعبير أوستين عن خطابة الوعظ الزهدي بتعبير نيتشه. مناسبة القول، والمناسبة شرط للتأويل، إن جاز لنا أن نستحضر نظرية الصلة أو المناسبة عند دان سبيربر وديدري ولسون، وهي نظرية من الضروري على الطلبة الباحثين المبتدئين في اللسانيات معرفتها، فما بالك بمن يُدرِسُها، حتى نتبين المقدمات المنطقية الخاطئة عن نتائجها المغلوطة، والتي بنى عليها السيد المقرئ مداخلته المتهافتة عن سبق معرفة واصرار، ونتبين الخلل في البناء المنطقي لخطابه أمام طلبة وأساتذة شعبة الدراسات الإسلامية في الدارالبيضاء، وفي مدرج عبد الله العروي، ويا للمفارقة العجيبة، انتقد ستيفن هوكينغ ونظريته في بدء الخلق، والذي اعتمد على أدلة واهية حسبه لإثبات عدم وجود الخالق. فضمن سياق هذه النظرية التي تعد اضافة نوعية إلى نظريات التواصل والإدراك، يستفاد من المناسبة:" تنظيم شعبة الدراسات الإسلامية للأيام الثقافية السنوية، بندوة مركزية تحت عنوان " الإلحاد الديني الجديد بين أسبابه النفسية والمعرفية"، ودون برمجة أي نشاط تنويري أو أدبي شعري، أو فني جمالي، وكأن الثقافة فقط تختزل في الدعوة والوعظ، أن الرغبة في أسلمة الجامعة عبر مجموع ربوع المغرب، وعبر تدجين كليات الآداب، كان قراراً مدروساً، فبعد أن ضمن الإسلام السياسي كليات العلوم والتي فصلت بقرار سياسي عن الإبستمولوجيا والفلسفة، مثلما منعت الفلسفة من تنوير الدراسات الإسلامية والدينية، بمنع برمجة مادة الفلسفة في شعب الشريعة والدراسات الدينية، ويا للعجب، كيف يمكن دراسة الأديان في غياب الفلسلفة وفلسلفة الدين، وصار العقل النظري مفصولا تعسفياً عن كل ممكنات العقل العملي، بما في ذلك تهميش الآداب والفنون، صار من اللازم في سياق تعميم هذه الأسلمة، الانتقال إلى كليات الآداب، التي تشكل إلى حد ما، إذا استثنينا شعب الدراسات الإسلامية والشريعة ولواحقها، ممانعة تفكيكية للأيديولوجية الدينية، فاختيار كلية الآداب بنمسيك لم يكن اعتباطياً، كما هو حال المدرج نفسه، فبهده الكلية كان يقام المهرجان العريق للمسرح الجامعي، ولقاءات فنية كبرى، وفي المدرج ذاته، الذي يحمل اسم علم من أعلام الفكر الحر والتنويري، المفكر عبد الله العروي، الذي فصل منذ زمان في ضرورة فصل الدين عن الدولة، لانفصال مجال العقائد عن مجال المصالح في الأصل، كلها توضح مرجعيات وسياقات هذه الأسلمة، ولذلك فلمنح الشرعية العلمية للخطاب الديني الإيديولوجي، لا بد من مؤسسة علمية وأكاديمية، حتى وإن كان المتدخلون لا علاقة لهم بالعلم والمعرفة، مثلما رأينا في لقاءات سابقة متعددة برحاب مختلف الجامعات والكليات بالمغرب، من قبيل استضافة: عبد الله النهاري، رضوان عبد السلام، الفزازي، الحمدوشي….إلخ. ففي تفصيل حديثه عن الإلحاد الجديد، بالرغم من غياب سند مرجعي نظري واستشكالي لاختيار المفهوم، وبالتالي تمييزه عن الالحاد القديم، وهل الالحاد كمعتقد يخضع للتحقيب الزمني؟ وصف السيد المقرئ العالم الفيزيائي الكبير الراحل ستيفن هوكينغ بالغباء، ووسمه بالبليد بلادة الحمار سباً وشتماً ونبزا بلقب مستهجن ووضيع، دون حتى احترام حرمة الأموات، ولا أدبيات الحوار، قائلا: " إذا رفضت المعلومة فأنا أذكى منه، أو أنه في لحظة معينة صار أبلد من الحمار ". وفي ذلك ضرب صريح لأخلاقيات الحوار، ولمبدأ الاحترام والتقدير كشرط أولي للمناظرة سواء كانت علمية أو فكرية دينية. وهو ما يتعارض رأسا مع جوهر النص القرآني " وجادلهم بالتالي هي أحسن". كما يتعارض مع الأخلاق الإسلامية المحمدية الموصولة بالعناية الإلهية بالوحي الذي أقر للمختلف الحق في الاختلاف، حتى وهو يخاطب الكافرين الذين ليسوا بالضرورة ملحدين، خاصة وأن فعل "كفر" في لسان العرب، يدل على التستر والإخفاء والجحود، بمعنى عدم الاعتراف بعد تبوث الاقتناع بالحجة والبرهان على صدق قضية من القضايا. ولذلك، فالملحد نفسه الذي لم يقتنع بالنعم في مدلولها الإلهي الذي يتجاوز النعم في مدلولها الإنساني ليس كافراً، بما تحمل النعم من دلالات على آيات الله الكبرى في الكون وفي النفس. إنها دلالات لا تنفصل عل مستوى العقيدة من شرطها الثقافي والاجتماعي والسياسي، بحيث يصبح الإيمان مشكل وراثة بتعبير فتحي المسكيني، بالدرجة الأولى في غياب تعالق العقل النظري بالعقل العملي بتعبير إيمانويل كانط، ولذلك كانت العقيدة ممنوحة بالفطرة، وهو ما يحتاج دوما للعقل حتى يتبين الإنسان الدين الحق، لكنه الحق ذاته الذي يتأسس وجوبا على شرط الحرية، بكل ما يقتضيه الأمر من الاختيار، لا التكليف والجبر، وهو الأمر الذي يقودنا نحو احترام الاختيار كشرط قبلي. يقول تعالى في سورة "الكافرون"، بعد بسم الله الرحمن الرحيم: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6). وكما يلاحظ السيد المقرئ أبو زيد، فإن السورة تخلو خلواً تاما من كل نبز ولمز وسب وشتم، ولا وعد، ولا وعيد. وفي ذلك اعتراف واقرار بالبعد الزمني للكفر ذاته، الذي يختلف لغويا واصطلاحيا عن الالحاد. ذلك إن المعتقد الديني يخضع وجوبا للتحول وفق سيرورة الزمن، فالمعتقدات ليست تابته، بل هي متغيرة وخاضعة لشرطي الزمن والمعرفة من جهة ولإرادة الخير من جهة أخرى، فالجحود نفسي- حواسي، يخضع لتراتبية النفس، ولا علاقة له بالعلم الذي يريد المقرئ ربطه تعسفا بالإلحاد، واستغلال الاستثناء ليحوله إلى قاعدة هو ضرب من الاحتيال والخيانة العلمية والمعرفية، فكم عدد العلماء في العالم، وكم منهم من عبر تصريحا عن إلحاده، حتى نربط تعسفياً الإلحاد بالعلم؟. ما علينا، إننا بالعودة إلى كلمة الكُفْرُ في لسان العرب، الذي به نفهم قرآننا ورسالتنا وتراثنا نستخلص أنه يفيد : كُفْرُ النعمة، وهو نقيض الشكر. والكُفْرُ: جُحود النعمة، وهو ضِدُّ الشكر. وقوله تعالى: إِنا بكلٍّ كافرون؛ أَي جاحدون. وكَفَرَ نَعْمَةَ الله يَكْفُرها كُفُوراً وكُفْراناً وكَفَر بها: جَحَدَها وسَتَرها. وكافَرَه حَقَّه: جَحَدَه. ورجل مُكَفَّر: مجحود النعمة مع إِحسانه. ورجل كافر: جاحد لأَنْعُمِ الله، مشتق من السَّتْر. ضمن هذا المقام، فتأكيد النص القرآني على حسن التواصل والجدل، يفيد استعمال العقل في توضيح حدود الدين، التي هي من حدود العقل، ومن هنا، فلغة الجدل تضمر قيم الرحمة والمودة والمحبة بما هي قيم تتأسس على شرط قبلي للمعرفة، ألا وهو شرط الحرية، الذي يؤسس لأخلاق المسلم، التي تضمن سلامة الأخرين المختلفين عنه، من أهل الكتاب أو من غيرهم، من شره، سواء بالفعل أو بالقول، وشر القول السب والشتم، حتى وإن كان عدواً، وهنا ينتصر الإسلام للمحبة كقيمة مركزية في مكارم الأخلاق. في هذا السياق، يؤكد القرآن على أخلاق التعارف والحوار، ففي سورة فصلت، الآيتين 34-35، يقول تعالى: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ". وفي سورة النحل، الآية 125، يقول تعالى: " ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ". مناسبة هذا التفصيل الديني – الفلسفي، وهو بيان جهل المقرئ أبي زيد بالمقدمات الأولية للتواصل الخلاق، الذي من المفروض أن لا يغيب عن رجل يدعي امتلاك وكالة الحديث باسم الله، باعتباره مدافعا عن حدود الله كما يزعم كثيرا، وكأن لله حدود وهو اللامتناهي في الكبر والعظمة، مقابل التناهي في الصغر والعجز الذي يميز الإنسان بما في ذلك عقله. مقدمات منطقية في الفصل بين العلم والدين، وبين المقرئ أبي زيد وستيفن هوكينغ: لبيان تهافت خطاب المقرئ أبي زيد الإدريسي في محاورته/ تهجمه على العالم الفيزيائي ستيفن هوكينغ، لا بد من بسط عدد من المقدمات المنطقية التي يجب الحرص على سلامتها وصدقها، حتى نتبين النتائج التي سيقودنا إليها التحليل المنطقي، لأن ما بني على باطل وزيف المقدمات، فهو باطل وزائف على مستوى النتائج، خاصة إذا تعلق الأمر بحوار بين العلم والدين، بين الإيمان والعقل، بين الديني والدنيوي، وبين العقل النظري والعقل العملي، لاختلاف السياق والمناسبة بتعبير عالم الأنثربولوجيا الفرنسي دان سبيربر وعالمة اللسانيات البريطانية ديدري ولسون. المقدمة الأولى: إن الله في عظمته، هو اللامتناهي في الكبر، لكونه يتجاوز المادة، التي هو صانع لها، وفق المطابقة البسيطة بتعبير الفارابي. المقدمة الثانية: الإنسان عاجز وفان مادة، وخالد روحاً. المقدمة الثالثة: الإنسان متناه في الصغر، لتناه عقله في الإدراك. النتيجة الأولى: لا يجوز أن يكون اللامتناهي في الكبر موضوعا للمتناهي في الصغر. النتيجة الثانية: عقل الإنسان لا يمكنه أن يخضع الله للتجريب والتنظير، وفق مقتضيات العقل النظري. النتيجة الثالثة: لا يمكن للعقل أن يدرس سوى الطبيعيات وفق العقل النظري، عن طريق العلم، ولا يمكنه أن يدرس الالهيات إلا عبر فلسفة الدين، اعتباراً لرابط الروح. ومن هنا فإن للدين مجاله وموضوعه، أي الايمان والروح والالهيات، وللعلم موضوعه ومجاله، أي المادة بما هي أصل الطبيعيات.