توقفنا في الحلقات السابقة عند عناصر المجرة الإسلاموية في الساحة الفرنسية، انطلاقاً من معاينات على أرض الواقع، ومتابعات بحثية وإعلامية، وتأسيساً على مضامين تقرير لجنة التحقيق في مجلس الشيوخ الفرنسي، والمؤرخ في 7 يوليو 2020، تحت إشراف هشام القروي، الذي عينه الرئيس الفرنسي منذ سنين، للإشراف على ما يمكن الاصطلاح عليه ب"إعادة هيكلة الحقل الإسلامي في فرنسا". كانت الوقفة الأولى مُخصصة لجماعة "الدعوة والتبليغ"، وتلتها وقفة حول التيار السلفي الوهابي، ثم وقفة أمس عند التيار الإخواني ونتوقف اليوم عند الحالة الجهادية، التي تتميز بكثرة الهواجس الأمنية بالدرجة الأولى، قبل الهواجس الثقافية والدينية والمجتمعية، خاصة أن مجرد حدوث اعتداء في أي منطقة محسوب على هذه الحالة، يتسبب في فورة إعلامية ومتابعات بحثية، بصرف النظر عن مضامينها، وأحياناً، يكون سبباً وراء اتخاذ قرارات من دائرة صناعة القرار، كما عاينا ذلك مراراً في الساحة الفرنسية، ولا تخرج أسباب خطاب وحديث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن "الانفصالية الإسلاموية"، والمؤرخ في 2 أكتوبر 2012، عن هذه المعضلة، وإن كان يقصد مُجمل طبقات أو عناصر المجرة الإسلاموية، بما فيها التيار الإخواني والتيار السلفي الوهابي، وليس التيار الجهادي وحسب، على قلة هذا الأخير. خلُص التقرير إلى أن الجهاديين في فرنسا يشكلون أكثر مجموعات الحركات الإسلامية تطرفاً، حيث اتضح بعد استجواب مجموعة باحثين من طرف أعضاء اللجنة، أن لدى الجهاديين هدف واحد فقط، هو إنشاء "الخلافة الإسلامية العالمية". فرؤيتهم أممية، كما أنهم لا يهتمون بالأحياء الفقيرة. واستناداً إلى دراسة مسارات التنشئة الاجتماعية لحوالي خمسين امرأة حكم عليها بالسجن من 20 إلى 40 سنة، بإدانات تتعلق بالحالة الجهادية أي "التطرف العنيف"، اتضح أنهن انتمين في مرحلة سابقة إلى المرجعية السلفية [الوهابية]، حيث أدت السلفية إلى الحالة الجهادية. في أكثر من 90٪ من الحالات، أثبتت رحلة هؤلاء النساء أن هناك تنشئة سلفية تؤدي بعد ذلك إلى الاشتراك في الجهاد". [ص 39]، ولم يمنع هذا المعطى من انضمام نسبة من الجهاديين إلى الجماعات الجهادية دون تحضير سابق لدى السلفيين. أو لعلهم يتلقون إعداداً أيديولوجياً في السجون، ولا مفر هنا من الاشتغال على أعمال الباحث الفرنسي من أصل إيراني فرهاد خوسروخفار، صاحب مجموعة من الإصدارات المرجعية حول الحالة الجهادية في فرنسا والمنطقة، بما فيها الحالة الجهادية في السجون الفرنسية. صحيح أن هناك مجموعة إصدارات أخرى حول الحالة الجهادية، ولكنها متواضعة الأفق التفسيري مقارنة مع أعمال فرهاد خوسروخفار، نذكر منها كتاب للباحث العراقي وليد كاصد الزيدي، وعنوانه "الإسلاموية المتطرفة في أوروبا: دراسة حالة الجهاديين الفرنسيين في الشرق الأوسط" حيث حظرت نبرة إيديولوجية تكاد تتقاطع القراءات الإخوانية في قراءة الظاهرة. ويمكننا إضافة كتاب مهم أيضاً، لرشيد المناصفي، وهو باحث مغربي، متخصص في علم النفس وعلم الإجرام، بعنوان: "أطفالنا المفخخون: بين الانحراف والتشدد"، وتضمن مقدمة وثلاثة أبواب جاءت عناوينها كالتالي: "المسلمون أولى ضحايا الإرهاب"؛ "من تاريخ الجهاد إلى الجهاد المعاصر"؛ "حلولنا أمام التشدد"، حيث اشتغل بالتحديد على الحالة الجهادية في فرنسا، من منطلق أن فرنسا تضم أكبر عدد من المسلمين في أوروبا، ويُناهز عددهم ستة ملايين، مؤكداً في هذا السياق أن التديّن الإسلامي المتشدد هو حصيلة تفاعل عدة أسباب، يتداخل فيها البعد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وهي أسباب وأزمات يمرُّ منها العالم بشكل عام، ومن مؤشرات هذا التأزم، صعود أسهم الأحزاب السياسية اليمينية والشعبوية، التقوقع الهوياتي والطائفي. أما بالنسبة للورانس بيندنر، وهي زميلة مشاركة في "الشبكة العالمية للتطرف والتكنولوجيا"، وعضوة في "شبكة الأبحاث العالمية" ل "المديرية التنفيذية للجنة مكافحة الإرهاب" التابعة لمجلس الأمن الدولي، فإنه طالما كانت فرنسا هدفاً ذا أولوية كبيرة بالنسبة للجهاديين، الذي يميلون إلى تصوير البلاد على أنها معادية بطبيعتها وتاريخياً للإسلام. وفضلاً عن الازدراء بسياستها الخارجية، وتدخلها في العالم الإسلامي، واستغلالها للموارد في مستعمرات سابقة، يدين بعض المسلمين الثقافة الفرنسية الفريدة القائمة على العلمانية وخطأها السياسي. ولطالما اتسمت الصحافة الفرنسية بطابع تهكمي للغاية، هو إرث من الثورة. كما ينتقد العديد من الجهاديين البلاد بسبب هويتها الكاثوليكية، الأمر الذي كان السبب في استهداف كنيسة "السيدة العذراء". أخذاً بعين الاعتبار أن الحالة الجهادية تساهم في تغذية ظاهرة الإسلاموفوبيا، ضمن أسباب أخرى، خاصة بالفرنسيين والغربيين، وأخذاً بعين الاعتبار أيضاً أن أقلام المشروع الإخواني دخلت على خط التصدي للإسلاموفوبيا، فطبيعي أن تزعم هذه الأقلام بأن التصدي للحالة الجهادية، يمر عبر تشجيع التيارات الإسلامية المعتدلة، مصنفة نفسها ضمن خان الوسطية، ما دامت تنهل من منطق فاسد في الاعتقاد مفاده أنها تمثل المسلمين أمام صناع القرار، وهذا سبب آخر من لائحة أسباب تقف وراء تغيير إسم الفرع الإخواني في فرنسا من "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا" نحو "اتحاد مسلمي فرنسا". معضلة الاشتغال على الظاهرة الجهادية في فرنسا، رغم تواضع أتباعها، أغلبهم من المحسوبين على ما يُصطلح عليه ب"الذئاب المنفردة"، أنها تفرض الاشتغال على القواسم والفوارق بين عناصر المجرة الإسلاموية: الهاجس الدعوي والعقدي حاضر بشكل أكبر مع جماعة "الدعوة والتبليغ" والتيار السلفي؛ الهاجس السياسي والتوسعي حاضر بشكل أكبر مع المشروع الإخواني، ومن هنا رهانه على التغلغل والتقية ومحددات أخرى، أما الهاجس الأمني، فيُهمن أكثر في تناول الظاهرة الجهادية، لأنها تمس الأمن العام، وفي هذا السياق يأتي صدور كتاب هام عبارة عن دراسة سوسيولوجية للباحث برنار غوجيي الأستاذ بجامعة السوربون ومدير معهد الدراسات العربية والشرقية، ويُعتبر، إلى جانب فرهاد خوسروخفار، أحد أبرز المتخصصين في الحركات الجهادية والسلفية في فرنسا، تحت عنوان: "الضواحي التي سيطرت عليها الجماعات الإسلامية"، والدراسة في الأصل، عمل جماعي، ميداني، لمجموعة من الطلاب في علم الاجتماع تحت إشراف المؤلف، حيث كشفت كيف أن أقلية من الإسلاميين تتحدث باسم المسلمين نجحت في بناء شبكة فعالة في الأحياء وصارت تؤثر في الانتخابات المحلية، كما خلُصت إلى أنها استفادت في عدة مناسبات من تحالفات موضوعية مع قوى سياسية محلية، على غرار ما عاينا في حقبة مضت، مع تغلغل الحزب الشيوعي الفرنسي في نسيج البلديات والأحياء الشعبية، وخاصة في حقبة خمسينيات القرن الماضي. من الرؤى النظرية التي تصب في تغذية الخطاب الجهادي في فرنسا، الخطاب الدعائي الذي يروج ويُرسخ أفكاراً مفادها أن الدولة الفرنسية مناهضة للدين الإسلامي، أو أن العلمانية هي أيديولوجيا لمحاربة الإسلام والمسلمين، وهذا خطاب متداول بشكل كبير هنا في المغرب والمنطقة عند الأقلام الإسلاموية على الخصوص، أو المقربة منها، مما جعل شرائح معينة من سكان الضواحي المسلمين يعيشون في قطيعة تامة مع القيم الفرنسية ويمتنعون عن الاختلاط بالفرنسيين إلا في حدود معينة، وليس صدفة أن تتوقف الدراسة عند ممارسات جديدة بزغت خلال العقود الأخيرة، تنهل من تصور إسلاموي للدين الإسلامي من قبيل ارتداء الحجاب الأفغاني والتقيد باستهلاك اللحوم المذبوحة على الإسلامية ومقاطعة المسابح التي تسمح بالاختلاط بين الجنسين.