أسدلت جائحة كوفيد 19 غيوما سوداء على المشهد الثقافي بجهة فاسمكناس خلال السنة المنصرمة، إذ حرمت المبدعين في مختلف مجالات الفعل الثقافي والفني من حرارة التفاعل المباشر مع جماهيرهم، لولا أن العالم الافتراضي أتاح إمكانيات لمقاومة قانون الصمت الذي فرضه الوباء وفتح نوافذ للتعبير والتلاقح. احتجبت العديد من المواعيد التي طالما زرعت الحيوية وأشعلت الضوء في حنايا حواضر الجهة، وحاولت أخرى أن تكون في موعدها مع الجمهور، ولو من بوابة افتراضية، لكن ذلك لم يرفع الشعور بالانتظار والتطلع الى فتح الفضاءات الثقافية والفنية في وجه الابداع والتقاسم، بمجرد انفراج الغمة الوبائية. وقبل أن ينزل الفيروس ضيفا ثقيلا، كانت الحيوية تدب في فضاءات الجهة مؤشرة على موسم ثقافي غني. وضمن هذه الحركية، حطت إبداعات فوتوغرافية للفنان الاسباني فرانسيسكو غونزاليث بعنوان "صور الأندلس" الرحال، بفاس، في لقاء مع الجمهور على جناح الحنين والاعتزاز بتقاسم إرث حضاري فاخر. ففي رواق محمد القاسمي، وبمبادرة من معهد ثيربانتيس بفاس، اصطفت الصور الثلاثون، هي غنيمة عين الفوتوغرافي الاسباني لتشكل بانوراما بصرية حاولت القبض على أسرار استمرار آثار الأندلس وبصمات الوجود العربي الاسلامي حية طافحة بالسحر والإلهام. من مدينة الزهراء ومسجد قرطبة، تألقت نفائس العمارة الأندلسية وأبهرت الجمهور الذي وقف على جسور التلاقح والتماثل بين الفن الأندلسي في شبه الجزيرة الإيبيرية وفنون التصميم العمراني في عدد من المدن المغربية العريقة. ومع تطبيق تدابير الحجر الوقائية، كان على المديرية الجهوية للثقافة أن تقود المبادرة في أجواء الارتباك والتوجس التي سادت في بدايات الجائحة. الشعار كان من وحي الظرفية: "الثقافة عن بعد، لنعبر من خلال الفكر والفن في زمن كورونا، أبدع من بيتك". فقد فتحت المديرية باب التعبير عن الذات منذ ماي الماضي من خلال برنامج أنشطتها الثقافية والفنية، التي أطلقتها في ظل الحجر الصحي، بمناسبة شهر رمضان المبارك، وشهر التراث. واستثمارا لنجاح البرنامج الافتراضي الأول، وسعت المديرية مجال نشاطها ليشمل ورشات فنية متنوعة من مدينة تازة تناولت بناء الشخصية المسرحية، والحكاية. واحتفالا باليوم العالمي للموسيقى، أقيم معرض افتراضي لذاكرة الحاج عبد الكريم الرايس، عميد فن الآلة. ولم تكن للجائحة أن تحول دون تدشين الموسم الثقافي 2021-2020 ببرنامج متنوع بدأ من رواق محمد القاسمي بفاس، يوم 21 نونبر، بتنظيم صالون المغرب للفنون التشكيلية في الدورة الثامنة لجمعية كاميليون. وتواصل البرنامج الافتتتاحي بتنظيم حفل ديني بمناسبة عيد المولد النبوي في 4 دجنبر، تلته في 11 دجنبر، سهرة تراثية في فن الملحون بمشاركة ثم حفل فني تراثي يوم 18 دجنبر لمجموعة التراث العيساوي ونجوم كناوة من تنظيم الجمعية المغربية للمحافظة على التراث بفاس. ومراعاة لوضعية الطفل وانتظاراته في ظل الحجر الصحي واكراهات الجائحة، استقبل فضاء الطفل ورشات فنية، موجهة للأطفال من 5 سنوات إلى 12 سنة، شملت ورشة الحكاية وورشة تدوير النفايات وورشة تحسيسية عن مخاطر كوفيد. وتمت مواكبة الموضوع فكريا بمجموعة ندوات من بينها "مستقبل أدب الطفل في ظل جائحة كورونا" ، وأخرى حول " أي آفاق للقراءة والثقافة في ظل جائحة كورونا " بتنسيق مع شبكة رواد القراءة و الثقافة. بموازاة ذلك، أعاد منظمو بعض المهرجانات ترتيب أوراقهم من أجل ربح رهان الاستمرارية ولو افتراضيا، على غرار مهرجان فاس للثقافة الصوفية الذي انعقد في دورته ال 13 تحت شعار "فن التلاقح". واحتفت الدورة التي اختار المنظمون إقامتها وفق التدابير الوقائية المرتبطة بكوفيد 19، بالتراث اللامادي الصوفي، مستعيدة أشهر نصوص شيوخ الصوفية. وسمحت منصة رقمية "التراث الصوفي" لروحانيات العالم بالانضمام الى المهرجان في هذا المسعى المشترك نحو التفكير في سبل مقاومة "عولمة بلا روح تجتاح التعبيرات الدينية نفسها وتقود نحو نزع الانسانية من الانسان بشكل جذري". من فاس الى قونية في تركيا، ومن غرانادا الى نيامي مرورا بلاهور في باكستان، مداغ أو أبي الجعد، سافر الجمهور افتراضيا عبر مراكز روحية تاريخية. أكثر من ستين متدخلا نشطوا برنامجا متنوعا، من باحثين وخبراء وكتاب وتشكيليين وموسيقيين ومرشدين روحيين بينما أقيمت أمسيات صوفية ترحل "على خطى ابن عربي من مورسية الى دمشق" أو تستعيد "أصداء الرومي عبر العالم". ومن جهتها، ودعت مؤسسة "مقاربات" العام بتنظيم مؤتمرها الدولي السنوي الذي خصص محوره لموضوع " التحولات الاجتماعية والثقافية في العالم العربي". وانعقدت أنشطة اللقاء في عشر جلسات علمية تناولت قضايا متنوعة شديدة الراهنية في الحقل التداولي العربي من قبيل أسئلة التحديث والهوية والتحولات الثقافية ومسارات الحراك واشكاليات متعددة في السوسيولوجيا والأدب. عام يطوى حافظ خلاله الفاعلون في المشهد الثقافي بجهة فاسمكناس على قنوات التواصل مع الجمهور في ظروف صعبة، متطلعين الى عام جديد ببشائر الخروج من مأزق الجائحة والتحليق بأجنحة الفن والثقافة في منطقة ذات ثقل روحي وتراثي متميز.