على الرغم من كل المزايدات والمساومات، والزوبعة الإعلامية والسياسية التي أثارتها الجزائر في الأسابيع القليلة الماضية، لم تُخْلف دولة الإمارات العربية المتحدة وعدها ومضت قُدُماً في تدشين أول تمثيلية قنصلية لها على أراضي الصحراء المغربية في عاصمة الأقاليم الجنوبية العيون. واختارت أبو ظبي أن يتزامن موعد افتتاح هذه القنصلية مع قرب الاحتفال بالذكرى الخامسة والأربعين للمسيرة الخضراء، التي ستحل بعد غد الجمعة. إنه اختراق دبلوماسي كبير هذا الذي حققه المغرب مع حليف استراتيجي عريق تمثله دولة الإمارات التي لم تتردد يوما في دعم القضية الوطنية للمغرب، ليكون لها قصب السبق في وضع أول لبنة للوجود العربي في الصحراء المغربية. لا يمكن أن ننظر إلى هذا الحدث على أنه مجرد تدشين رسمي وبروتوكولي لقنصلية كباقي القنصليات، فوراءه رسالة سياسية صريحة وواضحة تعبر عنها الإمارات العربية المتحدة، ومن بعدها حلفاءها في مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية، لدعم مغربية الصحراء، واستشراف مستقبل قريب ينتهي فيه هذا النزاع المفتعل الذي طال أكثر من اللازم. إنه تأكيد على العلاقات "المتينة والاستراتيجية" مثلما جاء في كلمة وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي، الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان بمناسبة هذا الافتتاح. لكن العنوان البارز لهذا الحدث هو هذا الاتفاق المغربي الإماراتي الواضح من أجل استشراف مستقبل أفضل للمنطقة وتعزيز لغة الواقع والتطوير الاقتصادي والتنموي، بدلا من الارتهان للشعارات الجوفاء التي لا تزال تكبل عقلية جيراننا في الحدود الشرقية. وليس هذا المنطق غريبا على دولة الإمارات العربية المتحدة وعلى قيادتها السياسية. فهي كانت ولا تزال سباقة للانطلاق نحو الآفاق الرحبة والسلمية وتخطي العراقيل الثقافية والسياسية المتجاوزة. كلنا نتابع اليوم كيف تحقق قيادة الإمارات اختراقات غير مسبوقة في الكثير من القضايا القومية أو الإقليمية أو المحلية، لحسم كل التعثرات التي لا تزال للأسف تعيق نمو المنطقة وتَقدُّمها نحو ملاحقة الركب الحضاري للإنسانية. لقد جاء الإماراتيون من أقصى المشرق العربي إلى أقصى المغرب العربي ليقدموا لجيراننا في الجزائر درسا عمليا لمعنى التحرر من عقائد الماضي وقناعات الأمس التي انتهت بنهاية الحرب الباردة. إن قيادة أبو ظبي أكثر من يدرك أن العالم تغير، بل يسير نحو إفراز نظام جديد، تنبغي مواكبته واستباقه، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بتجاوز النزاعات والصراعات، خصوصا منها تلك المصطنعة. هذا هو الإرث الذي خلفه الشيخ زايد، وتركه لأبنائه البررة، يحافظون عليه ويعززونه ويطورونه لصالح الأمة والوطن. إنها وصية حماية الأوطان من التمزق والتقسيم والفُرقة، ودعم الوحدة وتعزيزها في مواجهة نوايا الانفصال والتفكيك. لا يجب أن ننسى أن مؤسس الإمارات العربية الحديثة، أقام مشروعه السياسي والوطني على توحيد الإماراتيين، وصهر كل مكوناتهم القبلية والتاريخية في إطار دولة موحدة وقوية. ومن الطبيعي أن يكون أبناءه وورثته من المؤمنين بأن الأوهام الانفصالية ليست سوى مؤامرات تستهدف وحدة الأوطان واستقرارها، ومن الطبيعي أيضاً أن يكونوا أول المعترفين والمدافعين عن الوحدة الترابية لبلد شقيق مثل المغرب. لأجل ذلك، فإننا في المغرب ممتنون كثيرا لهذه الخطوة التاريخية، التي سيكون لها ما بعدها. ونترقب عما قريب جدا أن تتوافد إلى أقاليمنا الجنوبية وفود عربية وخليجية أخرى، لتدشين قنصلياتها وطي صفحة سوء الفهم والتردد والتعاطف مع الشعارات الفضفاضة التي لم تخلق "دُويلة" جديدة، ولا بَنَتْ بلداً قديماً. لا ننتظر من الجزائر اليوم أن تفتتح قنصلية لها بالصحراء المغربية، ولا يهمنا ذلك أصلاً، فالصحراء تدافع اليوم عن نفسها بنفسها بما تمتلكه من مؤهلات اقتصادية وسياحية، وبنيات تحتية وثقافية، ستجعل منها بفضل الشركاء الإماراتيين والعرب، قطبا تنمويا هائلا وجذابا، ولا عزاء للحاقدين والحساد.