طالعنا في بعض وسائل الإعلام، بداية هذا الأسبوع، تصريحات لوزير الصناعة والاستثمار والتجارة والاقتصاد الرقمي، السيد مولاي حفيظ العلمي، من جملة ما قال فيها أن "التنبيه الصارم للملك بخصوص التأخر الذي يعرفه مشروع مخطط التسريع الصناعي في جهة سوس، كان واضحا ومفهوما وأتى في وقته"، معترفا أن "المشروع عرف بعض الاختلالات والتأخرات"، وأنه قد "بدأ العمل من أجل تدارك هذا التأخر، وتجاوزه". قول الوزير، إلى هنا، يستحق التنويه والتفاعل الإيجابي، لأنه يعكس إحساسا بالمسؤولية وتقديرا لمقتضايتها. كما أن الإقرار بالخلل والالتزم بمعالجته، أمر محمود يدخل في نطاق احترام "معايير الجودة في مسارات التدبير"، التي لطالما دافع عن أهميتها ذات المسؤول الحكومي. ومن منطلق إيماني أن تتبع مجريات تدبير الشأن العام، يستوجب التعاطي النزيه مع المواضيع التي تحوز الاهتمام، متابعة وتحليلا، كما هو يستلزم اعتماد النقد الرصين الذي يساهم في خلق أجواء الثقة بين الفاعلين الرسميين وبين المواطنين المتتبعين لأدائهم، لا يمكنني إلا أن أثمن إقدام الوزير على محاولة معالجة الخلل، أولا، و حرصه على التواصل مع الرأي العام وطمأنته بأن إجراءات صارمة اتخذت لتدارك التقصير في تدبير ملف هام، سجل الخلل وأثار الانتباه إليه، جلالة الملك رئيس الدولة. وبمقابل موقفي هذا، لا يمكنني ألا أتفاعل مع جزء آخر من تصريح الوزير، قال فيه أنه لن يقبل "من أي طرف، كيفما كان، أن يستغل مسألة تتعلق بتعليمات ملكية سامية ضمن أغراض سياسوية". صراحة، لم أجد هذا الجزء من الكلام ضروريا، ولا وجدته متسقا مع منهجية "تواصل الأزمة" Communication de crise ؛ ولا أحسست أن لهذا الكلام عائدا سياسيا يمكن تحصيله. بالنسبة لي، هذا الجزء من التصريح ليس سوى تعبيرا عن حالة حرج، أو ربما غضب مكتوم، جراء بروز أصوات وصفها الوزير بكونها "سياسوية"، ذنبها أنها تفاعلت مع موضوع التقصير في تدبير مشروع التصنيع بجهة سوس ماسة. إن المنطق السياسي السليم، يفرض على من تحمل المسؤولية، ضمن نسق سياسي ديمقراطي، قبول كل الأراء المعبر عنها بخصوص ملفات تدبيره للشأن العام، بما فيها وجهات النظر المخالفة والمنتقدة، طالما التزم أصحابها النقد الموضوعي واحترام أدبيات الحوار والسجال السياسي. وفي حالتنا، يبدو لي أن ما حمله الجزء الأخير من تصريح الوزير، يدخل في إطار منطق رد الفعل الأقرب لتكتيكات "رجل السياسة" الحريص على سمعته وعلى صورته أمام خصوم ومنافسين متربصين، أكثر منه رد فعل "رجل التدبير" الحريص، أولا، على النتائج و على نجاعة أداء المؤسسات التي يسيرها والتي تقوم بتنزيل سياسة عمومية قطاعية معينة. ولكي نستوعب أكثر حيثيات القصة، كم تمنيت لو أخبرنا الوزير بهوية تلك "الأطرف" التي يعتبر أنها استغلت الموضوع "ضمن أغراض سياسوية"، لنعرف أهي جزء من حلف الأغلبية المتوجس بعضه من بعض؟ أم هي جزء من معارضة تسعى لتسجيل حضورها من خلال انتقاد عمل الحكومة ؟ أم هم فاعلون سياسيون غير منتمين، يهمهم ما يجري في ساحة تدبير الشأن العام ؟ أم هي وسائل إعلام "مشاكسة"؟ أم هو جزء من مجتمع مدني ذنبه أنه يحاول تجسيد دوره في تتبع السياسات العمومية والمساهمة في تقييمها؟ وكم وددت لو بسط لنا الوزير بالضبط ما يقصده بالأغراض السياسوية ؟ وبأي شكل تم تصريف تلك الأغراض ؟ وفي أي اتجاه تم ذلك ؟ ولفائدة من؟ و أي وقع وأثر خلفه ذلك التصريف ؟ وماذا أزعج السيد الوزير، في نهاية المطاف، من ذلك التناول "المغرض"؟ أكيد، أنه لن تأتينا إجابات، تماما كما لن يتوقف المواطنون المتابعون عن طرح الأسئلة كلما كان ذلك ضروريا. ذلك قدرنا في وطن يرفض أبناءه أن يتم الحجر على ذكائهم. المهم، أنني في مقالي الصادر الأسبوع الماضي، تحت عنوان "تأهيل التدبير العمومي وشرط الكفاءة والنفس الوطني"، كنت قد توقفت عند دلالات الاستفسار الملكي بشأن مدى "تقدم تنفيذ مخطط التسريع الصناعي لجهة سوس ماسة"، الذي أعطيت انطلاقته في 28 يناير 2018 بأكادير ، وكنت قد سجلت ما ورد بشكل واضح من إثارة الانتباه "لتعثر هذا المخطط، الذي لم يعرف أي تقدم منذ إطلاقه" والدعوة إلى "الإسراع بتنزيله داخل الآجال المحددة"؛ وأعود هنا لأتفاعل، كما وعدت بذلك، مع مسألة هدر الوقت في مسار تدبير الحكومة للشأن العام، لقناعتي أن الأمر ذو أهمية قصوى لا يجب أن نسكت عنه، ولا أن نرتبك خشية أن يوصف ما نحن عليه من تتبع وحرص، بأنه "استغلال سياسوي". وبناء عليه، أؤكد أنني عندما اعتبرت أن موضوع تأخير تنفيذ مشروع بذلك الحجم، أمر جلل يحتاج إلى وقفة تأمل طويلة، وإلى تحليل شجاع يقول الحقيقة ولا يجامل، فعلت ذلك يقينا مني أن استمرار الصمت أمام هدر الحكومة، أو بعض مكوناتها على الأقل، للوقت وللزمن السياسي، شيء غير مقبول بالمطلق. بل إنني أعتبر ذلك، لا مبالاة بالغة الخطورة، ربما لا يستحضر أصحابها أنهم يسكتون عن ظلم بالغ لحاضر وطننا، ولمستقبل الأجيال الشابة الحالية والمستقبلية. كيف لا و إضاعة الوقت، أثناء تدبير الشأن العام، يقلص حظوظ الإقلاع الاقتصادي، ويعطل انطلاقة التأهيل الاجتماعي المنتظر من طرف عموم المواطنين. لذلك قلت صراحة، أن إضاعة مدة "أحد عشر شهرا" دون فعل ناجع، في حالة مشروع التسريع الصناعي لجهة سوس ماسة، أمر غير مقبول، و هو ليس إلا دليلا آخر على أن الحكومة تتعاطى بمنطق غريب مع قيمة أساسية ألا وهي عامل الوقت/الزمن. والواقع الذي عشناه يؤكد أننا فيما كنا نلاحظ، منذ تبني المغرب لدستور جديد سنة 2011، أن المحيط الجهوي والدولي يتعقد، يوما بعد يوم، و معطيات الواقع تتغير بسرعة، وشراسة الصراع الاقتصادي التنافسي بين أقطاب العالم تتعاظم، كنا نلمس أيضا ، للأسف، كيف أن الفاعل الحكومي يشتغل ببطء شديد، ليس أسرع منه سوى وتيرة الخطابة والتصريحات النارية، أيام السبت والأحد في ملتقيات حزبية، يهتف الحاضرون فيها ضد حكومة يسيرها زعماؤهم. مما أضاع على البلاد وقتا كبيرا، سواء على مستوى الأوراش المتعلقة بتنزيل مقتضيات دستورية كانت تحتاج إلى إتمام إطارها المؤسساتي وإخراج كامل ترسانتها القانونية إلى حيز الوجود، أو على مستوى مشاريع وبرامج تنموية تم الإعلان عنها ولم تُفعل، كما هو الحال بالنسبة لمشروع "منارة المتوسط"، الذي خصه المجلس الأعلى للحسابات بتقرير أظهر دلائل عدة على تراخي غير مسؤول وارتجالية كبيرة على عدة أصعدة. علامات كثيرة كانت تبدو للرأي العام الوطني، تبين من خلالها أن حكومات ما بعد دستور 2011، ظلت مرتبكة أكثر من اللازم، تفكر وتتردد، وتتخوف وتتوجس، وتفتح معارك وهمية مع طواحين الرياح، ثم تمتنع عن الحركة بفعل صراع الكواليس بين بعض مكونات الحكومة نفسها، المنغمسة في حسابات ضمان مصالح حزبية ضيقة، تستعجل النهوض بأوضاع الأتباع والمريدين وتستبطء الحسم في قضايا تدبير تؤثر في المعيش اليومي للمواطن، بعيدا عن مقامات الحكمة وتغليب المصلحة الوطنية الجامعة. من هنا، لابد من الاعتراف الموضوعي بمشروعية الخوف الذي تسرب إلى أنفس المواطنات والمواطنين، وهم يرون أن السلوك الحكومي يزكي منطق السير بإيقاع بطيء يضمن لبعض مدبري السياسات العمومية مكتسبات تواجدهم بمناصبهم، من خلال اعتماد القاعدة اللعينة التي تقول "ما تدير شيء، ما يطرأ بأس…"، ويزكي تمييع وتسفيه ممارسة الشأن العام. ومساهمة صادقة في ألا نترك شعلة الأمل تنطفئ في أعين شباب هذا الوطن الغالي، يقتضي مقام المسؤولية المواطنة، اليوم وأكثر من أي وقت مضى، التنبيه العلني و الصريح، إلى أن الاستمرار في إضاعة الزمن، باستحداث أسباب واهية متعددة، ستكون له تكلفة ثلاثية الأبعاد: تكلفة سياسية، وتكلفة اقتصادية، وتكلفة اجتماعية. كما أن الأمر لن يزيد إلا في تقوية الاعتقاد السائد الآن في كل الأوساط بأن الفاعل الحكومي لا يريد تحريك الأمور، ولا يريد تفعيل الديناميكيات، ولا يريد الاجتهاد والتجديد، ولا يرغب في إطلاق الطاقات واستنهاض همم الكفاءات، لتنهض أوضاع البلاد على أسس جديدة في هذه المرحلة التاريخية الحساسة التي تجتازها بلادنا، و التي تحتاج إلى سمو منطق تدبير تشاركي تعلو فيه مصلحة الوطن والمواطنين على أي مصلحة حزبية ضيقة، مهما كان موقع أصحابها وشرعيتهم وعددهم وعديدهم. ويقيني، أن ترك البعض يشتغل بمنطق "خليها تخماج …"، سيترتب عنه، إذا استمر هكذا أشهرا أخرى، ما يمكن تسميته بالتحلل العضوي للوظائف المؤسساتية لمنظومة التدبير العمومي.. مما قد يؤدي إلى وضعية خطيرة وغير مسبوقة، تصير فيها منظومة الفعل العمومي غير قادرة على السير بالتناسق والتناغم المطلوب، وبالثقة اللازمة، والانخراط المتحمس للموارد البشرية وللكفاءات، من أجل إحداث أثر فعلي في سير المؤسسات والقطاعات، وتنزيل السياسات العمومية والبرامج بما يغير واقع الناس في حياتهم اليومية. و لا شك أن عقلاء الوطن وهم يحملون يقينا أن رأسمالنا الحقيقي هو انتماؤنا لأرض المغرب، وأننا ورثة شرعيون لأجداد أشاوس كرماء، و أن علينا واجب الحفاظ على الوطن والمساعدة في ضمان مستقبله مصانا ومحفوظا بإذن الله، يدركون جيدا أن ذلك لن يكون متيسرا مع استمرار منطق "التحلل العضوي" الذي سيزيد في تدمير ما بقي من ثقة وطمأنينة لدى المواطن، ويقتل أمله، ويزعزع يقينه بأنه ينتمي إلى مجتمع تنظم حركيته قوانين ومؤسسات من المفروض أنها في خدمته وليس شيئا آخر. هذا ما قصدته بحديثي عن خطورة إضاعة الوقت وهدر الزمن. ولهذا اعتبرت أن مؤاخذة الوزير ل"أطراف" بأنها تستغل الموضوع لأغراض "سياسوية" أمر لا يستقيم ولا يعتد به، لأن القضية أكبر من مستقبل مسؤول هنا، أو نتائج حزب هنالك. وعليه، كل الأمل معقود على أن يتم تصحيح المسار بجرأة وثقة، وأن يتم تصويب الخلل حيث ما كان، وبسرعة فائقة لأن الوقت يداهمنا من كل جانب. كما يتعين ترك أي تفاعل مع محترفي "السجال السياسوي" بشأن قضايا ثانوية، لأن ما يهمهم هو بالأساس أن يتضاعف أتباع "الطائفة العدمية" وأن يتسع نطاق التيئيس ويموت الأمل في قلوب الشباب، فيستسلموا لأصحاب المشاريع التحريضية الجاهزة والمغرضة. إن سعي أصحاب معركة "تثقيل الإيقاع"، يهدف إلى شغل النجباء عن الفعل الناجع، في محاولة لتأكيد "نظرية" أن لا أحد يصلح للسياسة إلا هم… وألا شرعية تعلو شرعية الأصوات التي حصلوا عليها… وأنهم هم المؤتمنون على "تصفية الساحة" وعلى "تحديد من له شرعية الفعل السياسي"… ولهم هم أن يسمحوا للقادمين من القطاع الخاص ومن عالم المال والأعمال، بولوج عالم السياسة… ولهم هم أن يقولوا أن "من الأفضل لهؤلاء أن يعودوا من حيث أتوا ويتركوا السياسة لأهلها"، لأنهم يعتقدون أن شرعية الاشتغال بالسياسة حكر عليهم، ومجال محفوظ لا يجب أن يدخله المتفوقون حقا، أولئك الذين أثبتوا نجاحهم ولم ينتظروا دخول "عوالم السياسة" لتظهر عليهم مظاهر الغنى. و لن أختم حديثي قبل التنبيه إلى أهمية استراتيجية "التدبير الاستباقي للمخاطر" المحيطة بأي مشروع، سواء على مستوى الوقت أو التكلفة… وليس تدبير الشأن العام الوطني إلا أكبر وأهم المشاريع التي تعنينا جميعا كمواطنين… خصوصا إذا كنا مجمعين على أننا نرفض أن نُسلمهم الوطن ليسيروا به إلى المجهول… وللحديث بقية… * فاعل سياسي ومدني